خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ
٣

خواطر محمد متولي الشعراوي

(كم) هنا خبرية تفيد الكثرة، فكأن الحق سبحانه ترك للمخاطب أنْ يتصوَّر الكمية ويُحدِّد الكمية في كم، وأنت لا تستخدم هذا الأسلوبَ إلا وأنت واثق من هذه الكثرة، كما تقول لمن يجحد فضلك: كم أعطيتُك أو كم صبرتُ عليك، يعني: مراراً كثيرة.
والقرن قلنا: إنه الفترة أو الطائفة من الزمن يحكمها مشخِّص واحد كالنبوة أو غيرها، كما نقول قوم نوح أو قوم هود، وقد اصطلح على أن القرن مائة سنة، وسُمِّيتْ قرناً لأنها متقارنة بعضها ببعض.
وفي قوله تعالى { مِن قَبْلِهِم } [ص: 3] احتياط جميل لأنه بعد بعثة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهلك الله قوماً بالجملة كما حدث قبله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك خاطب الحق سبحانه رسوله محمداً بقوله:
{ { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [الأنفال: 33].
فقوله تعالى: { مِن قَبْلِهِم } [ص: 3] يعني: هذه مسألة سبقتْ ولن تتكرر في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهذه المسألة تجد لها نظيراً في قوله تعالى:
{ { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ } [البقرة: 91].
لو لم يقُلْ الحق سبحانه (من قبل) لظَنَّ سيدنا رسول الله أن قومه ربما قتلوه كما قتل الأنبياء قبله، لكن الحق سبحانه يُطمئِنُ رسوله بقوله
{ { مِن قَبْلُ } [البقرة: 91] يعني: اطمئن، فهذه لن تتكرر، وفي هذا تثبيت لفؤاده صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { فَنَادَواْ } [ص: 3] يعني: ساعة حَلَّ بهم العذاب، ونزل بهم الهلاك العام نادوا نداءً عاماً لكل مَنْ يسمع ليُخلِّصهم ويُغيثهم وينقذهم، لكن ينادون مَنْ؟ لم يحدد القرآنُ المنادي ليدل على ما هم فيه من الفزع؛ لذلك نجد أن المناداة للفزع إلى مَنْ يخلصك مما لا تقدر عليه لها مراحل على قَدْر الخطر الذي تتعرض له، فلو رماك أحدٌ مثلاً بحجر تنادي ذاتك وتستدعي بعضك، فتحرك يدك مثلاً أو رِجْلك لتتفادى الأذى.
فإنْ كان الخطر فوق استطاعتك تنادي أقربَ الناس إليك أباك، أمك، أخاك، جارك، مَنْ يسير معك في الشارع .. إلخ فإذا لم تجد مغيثاً في هؤلاء تقول يا هوه. وقلنا: إنها تعني يا هُوَ يعني: يا الله ليس لي سواك أناديه وألجأ إليه.
وهؤلاء لما نزل بهم الهلاك نادوا نداءً عاماً لكل مَنْ يستطيع أنْ ينقذهم ويغيثهم، لكن هيهات فمَنْ يغيثهم إنْ كان ما ينزل بهم من الله؟ إذن: نداؤهم لا جدوى منه { فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ص: 3] كلمة (لات) مكوَّنة من لا النافية زيدتْ عليها التاء، لا للنفي عموماً فتنفي مرة المكين كما لو قلت: لا رجلَ في الدار وتنفي المكان كما لو قلتَ: لا دارَ أسكنها، فإذا زيدتْ عليها التاء نفتْ الزمن خاصة؛ لذلك جاءتْ بعدها كلمة (حين) وهي مثل: ثَمَّ وثمَّة، قال الشاعر:

ثُمَّتَ قُمْنَا إلَى جُردٍ مُسَوَّمَةٍ أعْرافُهُنَّ لأَيْدِينَا مَنَادِيلُ

ومعنى (مناص) يعني: مفَرّ ومَهْرب. فالمعنى { فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ص: 3] يعني: ليس الوقتُ وقتَ مفَر ولا مهربَ.