خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ ٱلأَشْرَارِ
٦٢
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ ٱلأَبْصَار
٦٣
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ
٦٤

خواطر محمد متولي الشعراوي

{ وَقَالُواْ } [ص: 62] أي: أهل النار { مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ رِجَالاً .. } [ص: 62] يعنون أصحاب محمد الذين { كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ ٱلأَشْرَارِ } [ص: 62]، كما قال الكفار لسيدنا نوح عليه السلام: { { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } [هود: 27] كذلك قال كفار مكة لأتباع محمد من العبيد أمثال بلال وخبّاب وغيرهم.
فزعماء الكفر في النار ينظرون حولهم، فلا يجدون هؤلاء الأشرار - معهم - فيتعجَّبون { مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ ٱلأَشْرَارِ } [ص: 62] أين هم؟ فالحال أنَّا لا نراهم، ثم يعودون إلى أنفسهم فيقولون: { أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً .. } [ص: 63] يعني: سخرنا منهم، وقلنا: إنهم أشرار وهم ليسوا أشراراً، فمصيرهم غير مصيرنا { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ ٱلأَبْصَار } [ص: 63] يعني: هم موجودون معنا، لكن زاغتْ أبصارنا فلا نراهم.
وكلمة (سِخْريّاً) من السخرية والاستهزاء، أما سُخرياً بالضم فهي بمعنى الاستغلال والاستذلال من التسخير في الأعمال. ومعنى { زَاغَتْ عَنْهُمُ ٱلأَبْصَار } [ص: 63] يعني: مالتْ عنهم، وقولهم { مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ .. } [ص: 62] مثل قول سيدنا سليمان في قصة الهدهد:
{ { مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ .. } [النمل: 20] فالمعنى أن الهدهد لا بُدَّ أنْ يكونَ موجوداً، لكن المانع عندي في أنْ أراه، ثم استدرك فقال: { { أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ } [النمل: 20].
ثم يقول سبحانه: { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ } [ص: 64] ولا بُدَّ أنْ يتخاصمَ أهلُ النار لأنهم إما ضَالٌّ وإما مُضِلٌّ فيُلقي كل منهم اللومَ على الآخر ساعةَ يرى المصير الذي صاروا إليه، ثم مَنِ الذي أخبرنا بهذا التخاصم، أخبرنا به القرآن الكريم، والقرآن لم يَقُلْ قضية وخالَفها الواقع.
ولك أنْ تلاحظ هذه الحقيقة من واقع القرآن مع المجتمع منذ بَعْث محمد صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا الحالي، أأخبر الحق سبحانه بقضية، وجاء الواقع مخالفاً لها؟
{ { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً .. } [فاطر: 43].
فمثلاً في بدر انتصرنا عليهم وقتلنا منهم قَتْلى وأخذنا أَسْرى، ولم يمر عام واحد حتى جاءتْ أُحُد، وفيها سار الكفار من مكة إلى مقربة من المدينة، وكانت المؤشرات تدل على انتصار المسلمين، لكنهم خالفوا منهج الله في عدم طاعتهم أمر رسولهم.
وقد كان رسول الله قد أمر الرُّماة ألاَّ يتركوا أماكنهم مهما حدث.
فلما رأى الرماة تفوُّق المسلمين وشاهدوا بوادر النصر سالَ لعابهم على الأسْلاب والغنائم، فنزلوا إليها، وتركوا أماكنهم، فاستغلَّ الكفارُ الفرصةَ، والتفُّوا حول المسلمين، وفعلاً (ماعت) المعركة وإنْ كنا لم نُهزم، إلا أننا لم ننتصر، مع أن الله تعالى وعد رسله بالنصر ووعد جنده بالغلبة، فقال سبحانه:
{ { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 171-173].
ومع ذلك كان عدم النصر في أُحُد ظاهِرة صحية في الإيمان؛ لأن المسلمين لو انتصروا مع المخالفة لأمر الرسول لَهَان عليهم أمره بعد ذلك، ولقالوا: خالفناه في أُحُد وانتصرنا، فإذا رأيتَ جندياً للإسلام يُهزم فاعلم أنه خالف التوجيه، إما خالف توجيه الرسول، أو خالف توجيه القائد الموكَّل من الرسول.
إذن: سنة الله في النصر لم تتخلف، إنما تخلفتْ الجندية لله تعالى؛ لذلك قُلْنا في أُحُد لم ينتصر المسلمون، لكن انتصر الإسلام وانتصرتْ أوامره.
كذلك حذَّرنا الحق سبحانه من الغرور والزَّهْو بالقوة وكثرة العدد، لأن النصر في الحقيقة ليس بكثرة عددكم، إنما النصر من الله، وهذا الدرس أخذناه في غزوة حنين، فأبو بكر نفسه داخله شيء من ذلك حين رأى أعداد المسلمين مقارنةً بأعداد الكافرين، فقال: لن نُهزم اليوم من قِلَّة، فأعطاهم الله درساً لا يُنْسى، وكاد النصر أنْ يكون للكفار، لكن أدركتهم رحمة الله، وحَنَّ الله عليهم في نهاية المعركة وحُسِمتْ لصالح الإسلام.
إذن: فالزَّهْو والغرور مخالف لقواعد الجندية فالنصر ليس بالعدد ولا بالعُدَّة، إنما النصر من الله كما قال سبحانه:
{ { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [التوبة: 14].
وقال:
{ { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ .. } [الأنفال: 17].
إذن: نقول ما دام أن الله أخبرنا بتخاصم أهل النار فهو حَقٌّ واقع نؤمن بصدقه.
ثم أراد الحق سبحانه أن يعطي نبيه صلى الله عليه وسلم حجَّة، فقال:
{ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ ... }.