خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
٢٣
-الزمر

خواطر محمد متولي الشعراوي

يقول الله تعالى: ما دُمتم ستتبعون الأحسن وتختارونه فأنا مُنزِلٌ عليكم أحسن الحديث، نعم هو أحسن الحديث لأنه كلامُ الله وكلام الله صفته، وهو كامل الكمال المطلق، وقد جعله الله مُعْجزاً، وتولى سبحانه حفظه بنفسه ولم يكل حفظه للخلق.
وفي عُرْف البشر أن الإنسان لا يحفظ إلا ما كان حجة له ولا يحفظ الحجة عليه، أما الحق سبحانه فيحفظ القرآن وهو حجة عليه سبحانه لخَلْقه، فكل ما أتى في القرآن ضمن الحق سبحانه حدوثه، كما أخبرنا الله به لأنه هو منزله وهو حافظه.
والمراد بأحسن الحديث القرآن الكريم، ومعنى { مُّتَشَابِهاً } [الزمر: 23] أي: يشبه بعضُه بعضاً في الحُسْن أو في البلاغة أو في الموضوع، فإياك أن تقول: هذه الآية أبلغ من هذه، لأن كل آية بليغة في موضوعها.
فلو أخذنا مثلاً التشابه في الموضوع نقرأ في قصة سيدنا موسى عليه السلام:
{ { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً .. } [القصص: 8].
وفي موضع آخر قال:
{ { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } [طه: 39].
فظن البعض هنا تكراراً، لكن المتأمل في معنى الآيتين يجد أن كل أية تؤدي لقطة لا تؤديها الأخرى، فمعنى
{ { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص: 8] العداوة هنا من موسى لآل فرعون إنما في. { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ .. } [طه: 39] العداوة من جانب فرعون لموسى، والمعركة لا يحمى وطيسها إذا كانت العداوة من جانب واحد، لأن الجانب الآخر ربما يتساهل أو يتنازل لعدوه، فإنْ كانت العداوة من الطرفين حميتْ المعركة.
وسبق أنْ قلنا: إن المستشرقين وقفوا أمام قوله تعالى:
{ { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [لقمان: 17] وقوله: { { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43].
وقالوا: أيهما أبلغ من الأخرى؟ وإنْ كانت إحداهما بليغة فالأخرى إذن غير بليغة.
ومثل هذه الاستدراكات نتيجة عدم فَهْم أسلوب القرآن، وعدم وجود الملَكة اللغوية عندهم. ونقول لهم: كل آية بليغة في سياقها مناسبة للمعنى الذي قِيلَتْ فيه، فالآية الأولى وردتْ في الكلام عن المصيبة التي لا غريمَ لكَ فيها، والصبر في هذه الحالة يسيرٌ لذلك لم يُؤكّد.
فمن الطبيعي أنْ تصبر على المرض مثلاً، لأنه لا غريم لك فيه، أما إنْ كانت المصيبة لك فيها غريم، فالغريم يثير غضبك ويؤجج نار الغِلَّ، ويدعو إلى الانتقام، فناسب ذلك التأكيد باللام في الآية الأخرى:
{ { لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43].
وكذلك وقفوا أمام قوله تعالى:
{ { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ .. } [الأنعام: 151] وقوله سبحانه: { { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم .. } [الإسراء: 31] وقالوا: ما الفرق بين الآيتين؟ ونقول: لو نظرت إلى صدر الآية لوجدتَ أن كل عجُز يليق بصدره، لأن القتل للأولاد كان له سببان: الأول: الفقر، فالعائل فقير لا يقدر على رزق نفسه، فما بالك برزق أولاده؟ لذلك قال سبحانه: { { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ .. } [الأنعام: 151] لأن الفقر موجود { { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ .. } [الأنعام: 151] وقدَّم الآباء على الأولاد؛ لانشغال نفوسهم برزقها أولاً.
والسبب الثاني: أن يكون عنده ما يكفيه، إنما يخشى الفقر إن جاءه أولاد، وفي هذه قال سبحانه:
{ { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم .. } [الإسراء: 31] وقدَّم الأولاد على الآباء، فنحن نرزق الأبناء الذين تخافون الفقر بسببهم قبل أنْ نرزقكم، إذن: فكلّ آية مُذيَّلة بما يناسبها.
كذلك قُلْنا في مسألة السمع والبصر في قوله تعالى:
{ { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } [القصص: 71] وذكر هنا السمع لأنه وسيلة الالتقاء في ظلمة الليل، وبه يستدعي الإنسان إنْ كان نائماً.
أما في آية النهار، فقال سبحانه:
{ { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [القصص: 72] لأن البصر لا يكون إلا في ضوء النهار.
ومعنى { مَّثَانِيَ .. } [الزمر: 23] يعني: مَثْنى يُقَال: مرة واثنين وثلاثة، أو: يثنى في الصلاة حيث نقرأ الفاتحة ثم سورة بعدها، وفي الركعة الثانية كذلك.
وقوله: { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ .. } [الزمر: 23] وهذه صفة العبد الذي يخشى ربه ويراقبه ويعمل لنظره إليه حساباً، لأنه دائماً يعرض سلوكه على ربه، فإنْ رأى فيه مخالفة عاد إلى كلام الله وتذكَّر وعيده فيحدث عنده قشعريرة في جلده من خشية ربه، وهي أنْ يجفّ الجلد ويقعقع وتحدث رعشة في البدن من خوف العذاب، ومن خوف غضب الله، ثم يعود فيتذكر رحمة ربه التي سبقتْ غضبه، وعفوه الذي سبق عقوبته، فيعود إلى حالته الأولى: { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } [الزمر: 23].
إذن: المؤمن يجمع بين الخوف والرجاء، وقلبه بين هذين الأمرين، فساعةَ يتذكر العقاب على المخالفة يقشعر جلده خوفاً، وساعة يتذكر رحمة ربه يلين جلده ويهدأ قلبه، ولِمَ لا وربه قد قال:
{ { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الزمر: 53].
(ذلك) وهذا هو الذي يحدث للمؤمن { هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الزمر: 23] وقد وقف كثيرون عند هذه الآية يقولون: ما دام أن الله هو الذي يُضل فَلِمَ يُعذّب الضال؟ ومعنى { وَمَن يُضْلِلِ } [الزمر: 23] يعني: يعلم ضلاله، ويعلم أنه لن يسمع كلامه ولن يتبع منهجه، وقد خلقه الله تعالى مختاراً إنْ شاء آمن وإنْ شاء كفر، إذن: فالكافر ما كفر غَصْباً عن الله، إنما هل رضي الله منه ذلك؟
وقوله: { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الزمر: 23] يعني: إياكم أنْ تستدركوا على الله بأحكام بشرية تُصنِّفها لكم عقول الذين يستنكفون أنْ يأخذوا عن الله، فما دام الله قال فلا يصح أنْ نستدركَ عليه سبحانه؛ لأنه لا يمكن أنْ نأتي بهدي أحسن من هُدَى الله.
ويجب على الأقل أن نفهم أن الذي يشرع شرعاً يريد أنْ يحكم به الناس لا بُدَّ أن يكون غير منتفع به ليكون حكمه نزيهاً وموضوعياً؛ لأنه لو كان منتفعاً بالحكم لا بدّ أن يميل قلبه إليه ويسير هواه مع منفعته.
يعني: مثلاً لو شرَّع العمال لاختاروا الاشتراكية، ولو شرع الرأسماليون لاختاروا الرأسمالية، لذلك يشترط فيمَنْ يُشرع ألاّ يكون منتفعاً بما يشرع، وهذا الشرط لا يتحقق إلا في الحق سبحانه.
لذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يترك في كونه قضايا حتى عند الكافرين به، وعند غير المؤمنين بمنهجه، قضايا تدل على أن شرع الله هو الأحسن، فكثيراً ما وقفوا عند قضايا لم يجدوا لها حلاً في قوانينهم، فلجأوا إلى دين الله وإلى شرع الله، لا لأنهم آمنوا به سبحانه، ولكن لأن قضاياهم وأمور حياتهم لا تُحَلّ إلا بهذا المنهج.