خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ
٢٥
فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْيَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
٢٦
-الزمر

خواطر محمد متولي الشعراوي

قوله سبحانه: { كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ .. } [الزمر: 25] أي: من الأمم السابقة { فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ .. } [الزمر: 25] أي: عذاب الدنيا بهزيمتهم ونُصْرة الدين الذي كانوا يحاربونه ويصادمونه، وهذه أيضاً هي التي حدثتْ للكافرين، حيث نصر الله الإسلام، وأظهر مبادئه وقضاياه على مبادئ الكفر، وهذا في حَدِّ ذاته لَوْنٌ من العذاب في الدنيا، فإذا ما عادوا إلى الله في الآخرة كان لهم عذاب آخر أشدّ وأنكى.
إذن: فهم يشبهون من سبقهم من المكذِّبين؛ لذلك قال في موضع آخر:
{ { كَدَأْبِ .. } [آل عمران: 11].
لذلك قوله تعالى: (كَذَّبَ) هنا وقوله (كَدَأبِ) هناك يتبين لنا قضية نفسية في القرآن الكريم، هي أن حفاظ القرآن يجب ألاّ يكونوا من العلماء، خاصةً علماء اللغة والفصاحة، لأن العالم إذا وقف في القرآن أمام لفظ أمكنه أنْ يتصرَّف فيه ويكمل قراءته، فيقول مثلاً:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ .. } [الحجرات: 6] يقول: فتثبتوا أو فتحققوا، ويمكن أنْ يستقيم المعنى، لكن الحق سبحانه يريد لفظاً بعينه لا يجوز أنْ نتعداه إلى غيره، أما الذي تخصص في حفظ القرآن، وليست لديْه ملكَة التصرف هذه، فإذا نسي أو وقف في لفظ وقف (بالأربعة) يعني: لا يمكن له التصرف فيه، وهذا هو المطلوب في حَفَظة كلام الله، وهذه من عظمة القرآن.
لذلك قلنا: إن كمال القرآن لا يتعدَّى، كيف؟ فمثلاً لو أردنا لإنسان أنْ يرقِّق أسلوبه ويُقوِّيه في الأداء الإنشائي ننصحه بأنْ يقرأ كتب الأدب عند المنفلوطي والرافعي وغيرهما، فلما يُكثر من هذه القراءات نلاحظ تحسُّناً في أسلوبه وأدائه.
ثم إن حافظ القرآن المتمكن منه حتى لو حفظه بالعشرة وقِيل له اكتب خطاباً تجده لا يستطيع أن يكتبه فصيحاً أبداً لماذا؟ لأن كمال القرآن لا يتعدَّى إلى غيره، إنما بلاغة البشر تتعدى إلى البشر.
وقوله: { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [الزمر: 25] أي: من حيث لا يُقدِّرون ولا يحتسبون، حيث يداهمهم من العذاب ما لم يكُنْ في حسبانهم، ولم يخطر لهم ببال، كما في قوله سبحانه:
{ { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [النور: 39] أي: فوجئ به، فوجئ بحسبان آخر غير ما كان ينتظر، لأنه كذَّب في الدنيا بالبعث وبالحساب، والآن يُفاجئه الحساب الذي كذَّب به.
ثم يقول سبحانه: { فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْيَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا .. } [الزمر: 26] هنا نقل الإذاقة الحسية إلى الإذاقات المعنوية، والخزي والذلة نوع من العذاب، ولها إيلام يفوق الإيلام الحِسِّيَّ، فمن الناس مَنْ لا يؤلمه الضرب، إنما تؤلمه كلمة جارحة تخدش عِزَّته وكرامته.
لكن لماذا أذاقهم اللهُ الخزيَ في الدنيا قبل عذاب الآخر؟ أذاقهم الخزي لأنهم تكبَّروا على الحق وتجبَّروا، وجاءوا بقَضِّهم وقضيضهم في بدر لمحاربة الإسلام، وظنوا أنهم (العناتر) والجولة جولتهم، المراد إذن صناديد قريش ورؤوس الكفر أمثال عتبة وشيبة والوليد وغيرهم، جاءوا بالعدد والعُدة، وما خرج المسلمون لقتال إنما خرجوا للعير، ومع ذلك أعزَّ اللهُ جنده وأخزى عدوه، فقتل منهم مَنْ قتل، وأسر مَنْ أسر وذلّوا، وكان الخزي لهؤلاء أنكَى من القتل.
إذن: كان لهم الخزي في الدنيا، أما في الآخرة فلهم عذاب: { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 26] نعم، عذاب الآخرة أكبر من خزي الدنيا وأشدّ { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 26] لأن الذين علموا هذه الحقيقة انتهوا وآمنوا، أما هؤلاء فعاندوا وكابروا وكذَّبوا.