خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ
٥٩
-الزمر

خواطر محمد متولي الشعراوي

كلمة (بَلَى) حرف جواب لا يأتي إلا بعد نفي، فيفيد إثباتَ المعنى المنفي قبله، كما في قوله تعالى: { { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 172] فيأتي الجواب { { قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172] يعني: لا، أنت ربنا، والقاعدة أن نفي النفي إثبات، ومثله: { { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَاكِمِينَ } [التين: 8] على مَنْ يسمعها أن يقول: بلى يا رب، يعني: لا .. أنت أحكم الحاكمين.
إذن: فأين النفي السابق على قوله هنا { بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي } [الزمر: 59] قالوا: كَوْنه نفي الهداية في قوله:
{ { لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي } [الزمر: 57] لذلك جاء الجواب (بلى) يعني: لا بل هديناك { قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا } [الزمر: 59] والآيات جمع آية، وهي الشيء العجيب الملفت للنظر الداعي إلى التأمل والتفكر للعقل وللبصيرة.
والآيات كما ذكرنا على ثلاثة أنواع: آيات كونية تدل على قدرة المكوِّن سبحانه كقوله تعالى:
{ { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } [فصلت: 37]. { { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ } [الروم: 23].
وهذه الآيات الكونية التي تلفتنا إلى المكوِّن الأعلى هي الوسيلة الأولى للإيمان بالله، لذلك كلنا استنبط العلماء في الكون شيئاً جديداً أو اكتشفوا جديداً وجدنا له أصلاً في كتاب الله، قالها الحق سبحانه منذ أربعة عشر قرناً من الزمان.
هذه الآيات الكونية يُظهرها الحق سبحانه حتى على أيدي الكافرين به، لذلك حذَّرنا أن يتدخل علماء الشرع والفقهاء في علوم الدنيا والكونيات؛ لأن الكونيات لها علماء اختصُّوا بها، وسوف يخدم هؤلاء الدين وقضية الإيمان بالله، وسيُظهرون لكم الأسانيد والأدلة على وجوب الإيمان بالله صاحب هذا الكون ومُكوِّنه.
إذن: فهؤلاء العلماء يتعبون ويفكرون ويبحثون في الكونيات لخدمة المؤمن بالله وخدمة الدين، فهم - وإن كانوا كافرين بالله - جند من جنود الحق، وصدق الله تعالى:
{ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [فصلت: 53].
والعجيب أنهم سيُحرمون الأجر على هذا الجهد المبذول، لأنهم فعلوا ذلك وتوصَّلوا إلى ما توصَّلوا إليه، وليس في بالهم الحق سبحانه، إنما في بالهم خدمة الإنسانية، فليأخذوا أجورهم من الإنسانية، وفعلاً كرَّمتهم الإنسانية وصنعت لهم التماثيل، واحتفلت بهم؛ لذلك ليس لهم نصيب في الآخرة.
وينطبق عليهم قوله تعالى:
{ { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [الفرقان: 23].
وقوله:
{ { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [النور: 39].
يعني: فوجئ بأن للكون إلهاً خالقاً، فوجئ بالحساب والجزاء، وهذه أمور لم تكُنْ على باله في الدنيا.
النوع الثاني من الآيات هي المعجزات التي تصاحب الرسالات، لتدلَّ على صدق الرسول في البلاغ عن ربه، ومنها قوله تعالى:
{ { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ .. } [الإسراء: 101].
أما النوع الأخير فهي الآيات القرآنية التي تحمل أحكام الدين، والتي قال الله فيها هنا: { بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } [الزمر: 59].
وقوله تعالى: { وَٱسْتَكْبَرْتَ } [الزمر: 59] استكبر يعني: طلب أنْ يكون كبيراً، يعني: لم يتكبر فحسب، إنما طلب ذلك وسعى إليه لكنه لم يُجِب لذلك؛ لأن الذي يستكبر لا بدَّ أن يكون في غنىً عمَّنْ استكبر عليه، وإذا كنتَ في مُلْك الله وتحت سلطانه وتأكل من رزقه وتعيش في خيره، فكيف تتكبر عليه؟
ثم إن المتكبر ينبغي أن يتكبر بشيء ذاتي فيه لا يسلب منه؛ لذلك الذين يتكبرون في الدنيا إنما ينازعون الله صفته؛ لأنهم يتكبّرون بلا رصيد، ومَنْ من الخلق عنده ذاتية لا تُسلب منه، لذلك نرى مَنْ يتكبر بعزٍّ يُذله الله، ومَنْ يتكبر بغنىً يُفقره الله، ومَنْ يتكبر بصحته وعافيته يُمرضه الله.
إذن: التكبّر الحق أنْ تتكبر بشيء تملكه لا يُسلب منك، وشرُّ المتكبرين مَنْ يتكبر على ربه وخالقه والقادر على أن يسلب منه كل شيء، أما الذي يتكبر على الخلق فغافلٌ عن عظمة ربه وكبريائه؛ لأنه لو عرف عظمة ربه وكبرياءه لاستحى أن يتكبر وأنْ ينازع الله صفة من صفاته.