خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٩
-الزمر

خواطر محمد متولي الشعراوي

كلمة (أم) تفيد التخيير بين أمرين، تقول هذا أم هذا، فلا بُدّ أن يكون لها مقابل، فما مقابل { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ .. } [الزمر: 9] المقابل لذلك في قوله تعالى قبلها: { { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ .. } [الزمر: 8].
فالمعنى أيهما أحسن من صفته إذا مسَّه الضر يضرع إلى الله، فإذا كشف عنه الضر جعل لله أنداداً، أمَّن هو قانتٌ آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه.
ومعنى: { قَانِتٌ .. } [الزمر: 9] دائم الخضوع والعبادة (آنَاءَ) جمع (إنْو) مثل حِمْل وأحمال، فكلمة (إنْو) أي: جزء من الليل، وهي من حيث التصريف أأْناو وقُلِبتْ الهمزة إلى مَدٍّ والواو إلى همزة لأنها وقعتْ بعد الألف الزائدة، فصارت (آناء).
وقوله: { يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ } [الزمر: 9] يعني: يخاف منها ومن القهر فيها { وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر: 9] لأن رحمته سبقت غضبه، لم يقل يأمن مقابل يحذر إنما ذكر أولاً ما يُخوِّف من الآخرة إنْ عصى، والمراد يحذر النار في الآخرة، لكن لما تكلَّم عن رحمة الله جعلها مباشرة، فقال { وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر: 9] ولم يقل: ويرجو الجنة.
والمؤمن حين يرجو لا يرجو عمله وسَعْيه في الدنيا، إنما يرجو وينتظر رحمة الله، لأنه لا ينجو بعمله، لأن أيَّ إنسان مهما كان صالحاً حين تحاسبه حساباً دقيقاً لا بُدَّ أنْ يخرج بذنوب وإدانة.
إذن: فالكفيل فينا جميعاً والذي يسعنا رحمة الله، كما جاء في الحديث الشريف:
"لا يدخل أحدٌ الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: ولا أنا إلا أنْ يتغمدني الله برحمته" .
فإياك إذن أنْ تغترَّ بعملك، لأن التكاليف كلها لصالحك أنت، ولا يعود على الله منها شيء، فحين يجازيك عليها في الآخرة فهو تفضُّل من الله ونعمة.
ثم يقول سبحانه: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9] بعد أن عقد الحق سبحانه مقارنة بين الإنسان إذا مسَّه ضُر دعا ربه منيباً إليه، ثم إذا خوَّله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل، ومَنْ هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذَرُ الآخرة ويرجو رحمة ربه.
أراد سبحانه أن يؤكد هذا المعنى، وأنْ يبين لنا أن أصحاب العلم الحقيقي لا يستوون، وأصحاب العلم غير الحقيقي { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9] فالذي رجع إلى الكفر بعد أنْ كشف الله عنه ضُره لم يعلم العلم الحقيقي، لأنه لو علمه ما رجع إلى الكفر ولاستقلَّ المطلوب منه في الدنيا إذا قارنه بما أعدّ له من جزاء في الآخرة.
أما الذي هو قانِتٌ آناءَ الليل ساجداً وقائماً، يحذَرُ الآخرة، ويرجو رحمة ربه، فقد علم العلم الحقيقي، فالقنوت بالليل فيه مسائل كثيرة: أولاً: أنه أبعد عن الرياء والسمعة، ثانياً: أن كل جوارحه تفرغتْ للقاء ربه، فالعين مثلاً في ظلمة الليل تستريح من المرائي التي تشغل الإنسان وتأخذ انتباهه؛ لأن كل مرءَى يأخذ جزءاً من خواطرك، فهذا راح وهذا جاء وهذا قال وهذا ..
أما الليل فسكونٌ لا انشغال فيه، فالجوارح كلها خالصة لوجه الله، لا تشغلها المرائي والأصوات. وهذا الجو يوفر لك وقفة حقيقية وخاشعة بين يدي الله.
وفي القنوت تترك النوم وتحرم نفسك راحتها، لتقوم بين يدَيْ ربك ساجداً أو قائماً؛ لذلك يقول الشاعر:

خَلوْتُ إلى رَبِّي فَهِمْتُ بِقُرْبه وَصِرْتُ خَفِيفَ النفْسِ كَأنِّي بِلاَ جسْمِ
تَلوْتُ كِتابَ الله فيا نعمَ ما عُوِّضْتُ مِنْ نعمةِ النَّوْمِ
تَمنَّيتُ ليْلي أنْ يطُولَ لأنتهي إلى السِّين مِنْ والنّاسِ موصُولة باسْمِ

هذه صفة أهل القنوت الذين يقضون الليل في مناجاة ربهم، وهذا هو حال المرتحل في كتاب الله الذي لا ينتهي إلى السين من والناس حتى يبدأ في بسم الله الرحمن الرحيم في أوله؛ لذلك سبق أنْ قُلْنا: إن القرآن كله مبني على الوصْل، لا على الوقف.
فهل يستوي مَنْ هذا حاله مع مَنْ كفر بالله؟ هذا علم وعمل، ولذلك لم يعلم أو علم ولم يُوظِّف علمه فيما ينفعه. ثم إن العبد حينما يعلم ويعمل بعلمه يُفيض الله عليه بالمزيد، فيعطيه علمَ المكاشفة، وعلمَ الفيض، رحمةً منه سبحانه وفضلاً، كما رأينا في قصة العبد الصالح الذي صاحبه سيدنا موسى - عليه السلام - قال تعالى في شأنه:
{ { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [الكهف: 65] كذلك الرحمة هنا في { وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر: 9] أي: الفيوضات الخاصة التي يفيض الله بها على مَنْ ظل في معيته، ونحن نشاهد هذا في عالم البشر، فحين يكون لك صديق يلازمك ويسير في معيتك لا بُدَّ أن تخصَّه بفضلك وخصوصياتك، فما بالك بمَنْ ظل في معية ربه؟ أيعطيك بلا خصوصية؟ أيُسوِّيك بمَنْ يؤدي الفرض وحده؟
لذلك قال سبحانه في الحديث القدسي:
"ما تقرب إليَّ عبدي بمثل ما افترضتُه عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجْلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعطينه" .
وهكذا يدخل العبد في الربانية التي تقول للشيء كُنْ فيكون، وهذه من الفيوضات لمن كان لله ساجداً أو قائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، يعبده بلا رياء ولا سمعة، ويمنع نفسه النومَ والراحة؛ لأنه أنِسَ بربه، واستراح في قربه.
فقوله تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9] دلّ على أن هناك علماً اسمه علم المكاشفة، يُفيض الله به على مَنْ يشاء من عباده الصالحين، الذين استحقوا هذه المنزلة، فالعبد الصالح صاحب موسى وعبد الله على منهج موسى، وليس برسول، ومع ذلك فاق الرسول؛ لأن موسى - عليه السلام - أوصله بربه فتقرَّب إليه، حتى صار من أهل المكاشفة واتصل هو بالله مباشرة، وأطلعه الله على ما لم يُطلِع عليه نبيه موسى عليه السلام.
لذلك في آخر قصته مع سيدنا موسى قال:
{ { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } [الكهف: 82] إذن: فمهمة الرسل أنْ يُوصلُوا الخَلْق بالخالق، فإذا ما اتصلوا به كان الخط بينهما مباشراً، وكُلٌّ بحسب قُرْبه من ربه.
وقوله سبحانه { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [الزمر: 9].
أي: أصحاب العقول المفكرة التي تبحث في المحسَّات، وتتأمل في الآيات؛ لأن للإنسان حواسَّ تدرك، وعقلاً يرجح ويختار، فيأخذ هذه بالسمع، وهذه بالبصر، وهذه بالأنف ثم يعرضها على العقل لينظرَ ما فيها من الخير وما فيها من الشر، فإنْ كان العقل صحيحاً رجح الخير، واختار من البدائل أجداها فائدة، وأهمها نفعاً.