خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
٣
-غافر

خواطر محمد متولي الشعراوي

يريد الحق سبحانه ألاَّ ينفصل خَلْقه عنه مهما كثرتْ ذنوبهم وغلبتهم شهواتهم، يريد سبحانه أنْ يعطفهم إليه ويجمعهم في ساحته، لذلك فتح لهم باب التوبة والمغفرة وبسط لهم يَدَ العفو والتسامح، ثم لوَّح لهم بعصا العقاب حتى لا يغتروا، وهذا المنهج يعود نفعه على الكون كله وعلى الفرد خاصة؛ لأن صاحب الذنب لو علم ذنبه لن يُغفر لتمادى فيه وأكثر وعربد في الكون وأفسد، وساعتها سيشقى به المجتمع، وخاصة أهل الإيمان.
لذلك كانت هذه الآية من أرْجَى الآيات في القرآن الكريم كما قال سبحانه في أواخر سورة الزمر:
{ { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الزمر: 53].
وقلنا: إن هذه الآية وأمثالها لا تتعارض وقوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ .. } [النساء: 48] لأن الكفر ليس ذنباً، لأن الذنب أنْ تخالف أمراً مأموراً به أو منهياً عنه من المشرِّع الأعلى سبحانه، أما الشرك بالله فهو خروج عن الإيمان أصلاً فلا يُقال له مذنب.
والحق سبحانه كثيراً ما يذكر عباده بمغفرته وقبوله للتوبة حتى لا ييأس أحدٌ من رحمته تعالى، فقوله تعالى:
{ { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ .. } [الزمر: 53] لم يقلها الحق سبحانه إلا وهناك مَنْ أسرف على نفسه ويَئِس من رحمة ربه، لأنه بالغ في الذنوب حتى ظن أنها لن تُغفر.
من هؤلاء وحشيّ قاتل سيدنا حمزة، لأنه بعد أن قتله أحسَّ بذنبه وعِظَم جُرْمه، وأيقن أنه هالك لن يغفر الله له، لذلك البعض يقول إنه ذهب لرسول الله يسأله في هذه المسألة وكذا وكذا، لكن الواقع أنه كان في مكة والآية نزلت في المدينة لكن نُقلت إليه فلما سمعها آمن وأسلم.
ويُروى أن وحشياً قابل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم: ما كنتُ أود أنْ أراك لولا أنك جئت مستجيراً وربي يقول:
{ { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ .. } [التوبة: 6].
فقال: وأنا مستجير بك حتى أسمع كلام الله، فقرأ عليه رسول الله:
{ { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الزمر: 53].
فقال: لكن الله يقول:
{ { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً .. } [الفرقان: 70] وأنا لا أضمن أني أعمل عملاً صالحاً، فقرأ عليه رسول الله هذه الآية: { غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ .. } [غافر: 3].
ومن هؤلاء الذين أصابهم اليأس من رحمة الله عياش بن أبي ربيعة، فيُروى أن سيدنا عمر رضي الله عنه لما أراد أن يهاجر اتفق مع عياش وهشام بن العاص بن وائل السهمي على أن يهاجروا معاً وأن يجتمعوا عند بئر غفار، فإذا حُبِس واحد منهم انتظروه، فلما جاء الموعد لم يأتِ عياش حيث حبسه أهله عن الهجرة ثم فتنوه ففُتن ولم يهاجر مع صاحبيه، فحصل له يأس من رحمة الله.
فلما نزلت هذه الآية:
{ { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } [الزمر: 53] تذكر عمر صاحبه عياشاً الذي فُتن وتذكر أنه التقى معه على الإيمان في يوم ما، وأنه كان ينوي الهجرة إلا أن أهله فتنوه فرقَّ له قلبه وبعث إليه بهذه الآية ليطمئن ويعود إلى الإيمان.
قوله تعالى: { غَافِرِ ٱلذَّنبِ } [غافر: 3] أي: الذي سلف { وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ } [غافر: 3] أي: عن المعصية التي استقبلها { شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ } [غافر: 3] لحكمة يقرن الحق سبحانه بين المغفرة والعقاب حتى لا يتواكل الناس وحتى لا يغتروا برحمة الله، فالدين يقوم على الخوف والرجاء، وهما كالجناحين للطائر لابدَّ منهما معاً { ذِي ٱلطَّوْلِ } [غافر: 3] كما تقول يعني (إيده طايلة) يفعل ما يشاء، فالله ذو الطوْل أي صاحب الفضل والإنعام يعطي ويتفضَّل بما يشاء على مَنْ يشاء إلا يردّ عطاءه أحدٌ، لذلك ورد في الدعاء: "لا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت".
فإذا قال الحق سبحانه:
{ { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } [غافر: 2] فهمنا من كلمة تنزيل عُلو المنزل والواسطة المنزل إليه والمنزل إليهم ليكون منهجاً لحركة حياتهم، وهذا العلو إنما نشأ لأن المنزل كتابٌ من الله واجب الوجود الذي له الكمال المطلق في قولنا لا إله إلا الله والله أكبر من كل شيء التي فسرناها في قوله تعالى { { لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الزمر: 63].
فلا إله إلا الله مقلاد، والله أكبر مقلاد، وسبحان الله مقلاد، وبحمده مقلاد، ونستغفر الله مقلاد، ولا حول ولا قوة إلا بالله مقلاد، وهو الأول مقلاد، وهو الآخر مقلاد، وهو الظاهر مقلاد، وهو الباطن مقلاد، بيده الخير مقلاد، وهو على كل شيء قدير مقلاد. ولن تجد شيئاً في كَوْن الله يخرج عن هذه المقاليد أبداً، وكل شيء فيها إنما هو بيد الله، كما قال سبحانه:
{ { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [الأنعام: 59].
وبعد ذلك تكلم الحق سبحانه، فقال
{ { ٱلْعَزِيزِ } [غافر: 2] أي: عن خَلْقه. والعزيز هو الذي يغلب ولا يُغلب، وهذه إشارة إلى أنه إذا أنزل اللهُ كتاباً على رسول فلن يوجد مَنْ يقف أمام هذا الكتاب لأنه غالبٌ لا يُغلب، وقوله { ٱلْعَلِيمِ } [غافر: 2] أي: يضع الأشياء في أماكنها بما يعلم أنها تؤدي مهمتها بصلاحها.
وبعد ذلك طمأن خَلْقه الذين أسرفوا على أنفسهم في بعض الأشياء، فذكر التخلية في { غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ } [غافر: 3] ولكنه سبحانه مع غفرانه للذنب وقبوله للتوب { شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [غافر: 3] فجمع في هذه الآية صفات جلاله كلها وصفات جماله كلها.
ونفهم من (لا إله إلا هو) أنه لا استدراك لأحد على شيء من قوله { إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [غافر: 3] فلا مرجع ولا مردَّ إلا إليه.
ثم يقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{ مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ... }.