خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَٱلأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ
٥
-غافر

خواطر محمد متولي الشعراوي

المعنى: أنهم ليسوا بدعاً في الوجود، كما أنك لستَ بدعاً في الرسل، فقد سبقك إخوانك من الرسل فكُذّبوا كما كذَّبك قومك، لكن ماذا كانت نتيجة التكذيب؟ أبعث الله رسولاً وتركه وأسلمه؟ كلا والله بل سُنة الله في رسله أنْ ينصرهم وأنْ يخذل أعداء دعوته، قال تعالى: { { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 171-173].
وهذا ليس كلاماً نظرياً نُسليك به يا محمد، إنما له واقع وله نظائر تؤيده في موكب الرسالات، كما قال سبحانه عن المكذِّبين:
{ { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً .. } [العنكبوت: 40] أي: ريحاً ترميهم بالحجارة المحمية { { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ .. } [العنكبوت: 40] وهم قوم ثمود { { وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ .. } [العنكبوت: 40] كما خُسف بقارون { { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا .. } [العنكبوت: 40] كما فعل بقوم نوح وبقوم فرعون.
فسُنة الله في الرسالات أنْ ينصر رسله وأنْ يهزم عدوه، لذلك قلنا: إذا رأيتَ الأمة الإسلامية تنهزم في معركة، فاعلم أنه اختل فيها شرط الجندية لله، ولو بقيتْ على شرط الله في الجندية ما انهزمتْ أبداً.
فقوله تعالى: { كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ .. } [غافر: 5] أي: قبل قومك الذين كذبوك (قوم نوح) وهذه تسلية لرسول الله وتخفيف عنه، فليس التكذيب للرسالات شيئاً جديداً، واختار قوم نوح بالذات لأن رسالة نوح عليه السلام كانت أطولَ رسالة، حيث لبث في دعوة قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، كل هذا العمر الطويل وهم يجادلون رسول الله نوحاً ويكذبونه ويعاندونه، لذلك يئس من صلاحهم ودعا عليهم:
{ { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [نوح: 26-27].
أما القلة التي آمنتْ معه فقد دعا لهم حيث بدأ بنفسه:
{ { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ .. } [نوح: 28] ثم { { وَلِوَالِدَيَّ .. } [نوح: 28] لأنهما سببُ وجودي { { وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً .. } [نوح: 28] وهم ما لهم صلة به، ثم لعامة المؤمنين والمؤمنات { { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ .. } [نوح: 28].
إذن: ذكر تكذيب قوم نوح بالذات لأنه العمدة في هذه المسألة وهو الأوضح والأعنف، ولا تخفى عليكم المواقف التي تعرَّض لها نوح عليه السلام من تكذيب قومه وإيذائهم له واستهزائهم به، وهو يصنع السفينة.
وقوله: { وَٱلأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ .. } [غافر: 5] المراد عاد قوم هود عليه السلام وثمود قوم صالح عليه السلام، وهذا ليس كلاماً نظرياً بل هو واقع يرَوْنَهُ ويمرون بهذه الديار الخربة:
{ { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِٱلَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [الصافات: 137-138].
إنهم يمرون في أسفارهم بالأحقاف وبمدائن صالح، وعندنا في مصر آثار الفراعنة كلها تشهد بصدق الله في هذا البلاغ، وها هي أكثر دول العالم تقدماً الآن وحضارة تقف عاجزة أمام حضارة الفراعنة، وكيف أنهم وصلوا إلى هذه الدرجة من التقدم منذ أكثر من سبعة آلاف عام، ومع ذلك فاتتهم هذه الحضارة لأنهم لم يصلوا إلى الحد الذي يصونها لهم.
واقرأ إن شئت قوله تعالى:
{ { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ * وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ * ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } [الفجر: 6-14].
يعني: القضية لم تنته عند عاد وثمود وقوم فرعون، بل هي عامة في كل مكذِّب
{ { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } [الفجر: 14].
والأحزاب: هم الذين يتحزَّبون ويجتمعون على مبدأ واحد، والمراد هنا الذين يتحزَّبون ضد الدعوة وضد الهداية ويُسمونهم لذلك حزب الشيطان ويقابله حزب الله، وهم الذين يؤيدون الرسل وينصرون دعوة الحق.
{ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ .. } [غافر: 5] أي: ليقتلوه، وهذه المسألة جاءت مُفصَّلة في قوله تعالى:
{ { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ .. } [الأنفال: 30] أي: يحبسوك أو يقيدوك فلا تتحرك هنا وهناك { { أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } [الأنفال: 30].
والكلام هنا أنهم هَمُّوا بذلك لكن لم يفعلوه ولم يقدروا عليه، فكلمة (هموا) تعني تَوجُّهٌ وهَمٌّ مراد لم يحدث على الحقيقة، ومن ذلك قوله تعالى في الطائفتين في غزوة أحد:
{ { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ .. } [آل عمران: 122] لكن لم يحدث الفشل، فالهَمُّ شغْلٌ القلب بفعل الشيء، لكن لا يحدث الفعل. لذلك قال سبحانه: { { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ .. } [التوبة: 74].
إلا الهم الذي كان من سيدنا يوسف عليه السلام، لأن المسألة هنا تتعلق بعصمة نبي كما قال تعالى:
{ { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا .. } [يوسف: 24] البعض يُحمِّل هذه الآية معاني لا تليق بعصمة نبي الله يوسف، يقول: كيف يَهِمّ بها وهو نبي؟
قلنا: الهم تعلُّق الخاطر بالفعل أو تعلّق استجابة الجارحة للفعل، لكن ينفعل أو لا ينفعل هذا هو المهم، والآية فيها هَمَّان
{ { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ .. } [يوسف: 24] ثم سكوت، ثم { { وَهَمَّ بِهَا .. } [يوسف: 24] لاحظ أن هَمَّها هي لم تَنَلْ منه شيئاً لذلك قالت: { { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ } [يوسف: 32].
هذا دليل على أن همّها هي لم يأتِ بنتيجة، فكيف لا يأتي الهَمّ معها بشيء مع عصيانها، ثم يأتي الهَمّ بشيء مع يوسف؟ إذن: همتْ به ولم يحدث شيء وهي المريدة، كذلك وهَمَّ بها ولم يحدث شيء لأنه لا يريد.
وتأمل هنا دقة الأداء القرآني في استخدام نون التوكيد الثقيلة في
{ { لَيُسْجَنَنَّ .. } [يوسف: 32] ونون التوكيد الخفيفة في { { وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ } [يوسف: 32] لأن السجن أمر في يدها وبأمرها يُسجن يوسف، فاستخدم نون التوكيد الثقيلة الدالة على التمكُّن من الفعل، أما أنْ يكون من الصاغرين فهذا أمر ليس بيدها فلربما سجنته وعطف عليه الحراس وأكرموه، فاستخدم هنا نون التوكيد الخفيفة لهدم تمكُّنها من هذا الفعل.
والجواب الذي نحسم به مسألة الهم في هذه القصة ونوضح به براءة سيدنا يوسف مما يقوله عنه المفترون نقول: ولقد همت به، نعم أأدتْ هذا الهم أم لم تُؤده؟ لِم تُؤدِّه بدليل قولها
{ { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ .. } [يوسف: 32] { { وَهَمَّ بِهَا .. } [يوسف: 24] نعم هَمَّ ولم يفعل بنفس الدليل السابق، فلماذا تحرصون على إلصاق التهمة بنبي الله وهمّه كهمّها لم يأتِ بشيء.
ثم إن الهَمَّ منه هنا أمر طبيعي لأنه استعداد الطبيعة للوقوع في هذا الفعل، يعني: هو أمر ممكن بالنسبة له عليه السلام، فطبيعته صالحة لأنْ يفعل وإلا لقُلْنا إنه حَصُور ليس له في هذا الأمر، لا بل هو صالح له قادر عليه، فما الذي منعه إذن؟ نقول: منعه
{ { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ .. } [يوسف: 24].
أي: في أن هذا حرام. كما تقول: أزورك لولا أن فلاناً عندك، فالمعنى أنني لم أَزُرْكَ، إذن:
{ { وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ .. } [يوسف: 24] يعني: هَمَّ ولم يفعل فالحكم هنا براءة ليوسف عليه السلام حتى من الهَمِّ.
نعود إلى قوله تعالى: { وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ .. } [غافر: 5] حدث ذلك لكنهم لم يفعلوا ولم يأخذوه { وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ .. } [غافر: 5] أي: يزيلوا ويهزموا الحقَّ بالباطل، فماذا كانت النتيجة؟ { فَأَخَذْتُهُمْ .. } [غافر: 5] أي: أهلكتُهم بالفعل لا بالهَمِّ كما فعلوا هم، وهذا ما يليق بالقدرة العليا { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } [غافر: 5] يعني: هل عرفنا؟ هل قدرنا على عقابهم؟
وهذه مثل قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [المطففين: 29-36].
يعني: هل قدرنا أنْ نجازيهم على أفعالهم وإجرامهم؟ وكأن الحق سبحانه يريد أن ينبه أهل الإيمان، وأن يطمئنهم إلى عدله سبحانه، فلن يفلت هؤلاء من العقاب، ولا شكّ أن عقاب أهل الإجرام وأهل الكفر يريح أهل الإيمان.
وتأمل هنا أيضاً دقة الأداء القرآني في قوله تعالى: { وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ .. } [غافر: 5] ولم يقُلْ برسولها قياساً على أن الأمة مفرد مؤنث، إنما قال { بِرَسُولِهِمْ .. } [غافر: 5] فأضاف الرسول إلى جمع المذكر، ذلك لأن المواجهة بين الإسلام والكفر كانت بالرجال ولم تكُنْ المرأة طرفاً في هذه المواجهات بدليل أنهم لما بيَّتوا لرسول الله ليلة الهجرة كانوا جميعاً من الرجال ولم يكُنْ بينهم امرأة واحدة، كذلك الحال في { وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ .. } [غافر: 5] فهذه أمور لا دخْلَ للمرأة فيها.