خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ رَبُّكُـمُ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ
٦٠
-غافر

خواطر محمد متولي الشعراوي

معنى { رَبُّكُـمُ } [غافر: 60] من تولى تربيتكم، والتربية هنا تعني الإيجاد من العدم والإمداد من عُدْم، وما دام هو ربي فأنا مسئولٌ منه يضمن لي رزقي وعيشي في الدنيا، وقبل ذلك أعطاني الجوارح التي تعمل، والأعضاء التي بها أعيش، فهو ربي وخالقي الذي استدعاني للكون، ووفَّر لي فيه أسبابَ الحياة.
لذلك لما أراد سبحانه أنْ يجعل نموذجاً في الكون جعله بحيث يتعاطف الكونُ مع ذاته ويتكامل في نفسه، فجعل هذا قوياً، وهذا ضعيفاً، هذا صحيحاً وهذا مريضاً.
فالقوي حركته في الحياة حركة كاملة قوية تزيد عن حاجته، وقال له: ما زاد عن حاجتك اجعله للضعيف الذي لا يقدر على الحركة، والخالق سبحانه قادر على جَعْل الناس جميعاً أقوياء، لكن أراد أنْ يرتبط الخَلْق في حركة الحياة ارتباطَ حاجة لا ارتباطَ تفضُّل؛ لأن الارتباط لا يأتي بقانون التفضُّل، فالتفضل لا إلزامَ فيه، والمتفضل بالشيء حُرٌّ، يفعل أو لا يفعل.
وقوله: { ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60] يعني: فيما عجزتُم عن أسبابه ولن تقدروا عليه، ولم تجدوا من بيئتكم عَوْناً عليه، فليس لكم إلا التوجُّه إليَّ تدعونني، فأستجيب
{ { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ } [النمل: 62] فأنا ربكم وخالقكم استدعيتُكم إلى الوجود ومنحتكم الأسباب والجوارح، واستخلفتم في الأرض، فليس لكم ملجأ غيري تلجأون إليه إنْ عزَّت عليكم الأسباب.
أما إنْ كانت الأسبابُ ميسَّرة لكم، وقام كلُّ مكلَّف بدوره، فلا تتركوا الأسباب وتقولوا: يا ربّ، عليكم بما في أيديكم من الأسباب أولاً، زاولوها فإنْ ضاقتْ بكم فاذهبوا إلى المسبِّب.
لكن نلحظ في هذه المسألة أن الله تعالى أمرنا بالدعاء ووعدنا الإجابة، ومع ذلك منا مَنْ يدعو فلا يُستجاب له، فلماذا؟ قالوا: لأنك تدعو وأنت غير مُضطر، فلو كنتَ في حالة الاضطرار لاستُجيبَ لك. أنت تسكن في مسكن محترم وتدعو الله أن يكون لك (فيلا) أو قصر، فإنْ أعطاك القصر قلت: أريد عمارة تصرف على القصر، هذا دعاء عن ترف لا عن اضطرار، والإجابة هنا مشروطة بالمضطر.
والحق سبحانه وتعالى لا يُعفي عبداً عن مسئولية استطراق النفع للعباد، قالوا: لأن الواجد يبذل، وغير الواجد ينصح الواجد، فإنْ نصحت دون جدوى فلن تبرأ ذمتك حتى بعد ذلك.
ولو قرأتَ القرآن تجد قوله تعالى:
{ { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 91].
متى هذا؟ قالوا: إذا لم يكن عندك مال لا بدَّ أنْ تنصح
{ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } [التوبة: 91] نصحت ولم يستجب لك. قالوا: اقدر على نفسك، كيف؟ { { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } [التوبة: 92] فهل أعفى أحداً؟ لا بل حثَّ الجميع على أنْ يفعلوا: إما بذل المال، وإما بذل المقال، فإذا لم تستطع هذا ولا ذاك فيجب أنْ تحزن لأنك لم تشارك، ولا يكفي هنا الألم الوجداني، بل لا بدَّ أنْ يصحبه انفعال عاطفي ينتج عنه بكاء، تبكي أنك لم تجد شيئاً تنفقه في سبيل الله.
إذن: المسألة استطراق نفعي في الكون، هذا الاستطراق لا يدعُ أحداً منا في حاجة.
وبعد ذلك نقول له: أأنت فقير عَجْز أم احتراف؟ إنْ كان فقير احتراف لا يُحسب ولا يُؤْبه له، وإن كان فقير عجز فله أنْ يجلس في بيته مُعززاً مكرَّماً، والغني هو الذي يذهب إليه ويعطيه حقَّه، فالقادر إذن أصبح في خدمة غير القادر.
وقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر: 60] معنى: { يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } [غافر: 60] أي: عن دعائي والذلة لي، وإظهار الحاجة إليّ، لذلك قال أهل المعرفة: لا يكُنْ حظك من الدعاء أنْ تُجاب، لكن اجعل حظك من الدعاء ذلةَ محتاجٍ لمن معه الخير، هذه هي معنى العبادة هنا؟
لذلك تجد ربك عز وجل دائماً يُصحِّح لك خطأك في الدعاء:
{ { وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً } [الإسراء: 11].
فقد تدعو أنت لنفسك بشرٍّ تحسبه خيراً، ومن رحمة الله بك ألاّ يستجيب لك، لذلك قلنا في الثناء على الله تعالى: سبحانك يا مَنْ تُصوِّب خطأ الداعين بألاَّ تستجيب، وبذلك حميتنا من الضر، فكم يدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير.
وقلنا في ذلك: ما حال المرأة التي نسمعها تدعو على ولدها تقول: إلهي أشرب نارك؟ فمن رحمة الله بها ألاَّ يستجيب لها، إذن في المنع هنا عطاء.
لكم لماذا { سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر: 60] أي: منكسرين صاغرين أذلاء، قالوا: لأنك لا تدعو واحداً إلا إذا كنتَ مطيعاً له، لأن الدعاء والعبادة متساويان، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:
"كل أمر لا يُبدأ باسم الله فهو أبتر" يعني: لا بركة فيه.
وعلمنا أن نقول: بسم الله الرحمن الرحيم. يعني: أنا أبدأ عملي ببسم الله لكي تكون يد الله معي في الفعل، فما معنى (الرحمن الرحيم) هنا؟
قالوا: ربما كانت عاصياً فأذكر له سبحانه صفة الرحمة، لأنه سبحانه لا يتخلَّى عن عبده حتى لو كان عاصياً، فهؤلاء سيدخلون النار داخرين أذلاء لأنهم استنكفوا أنْ يدعو الله واستكبروا عن عبادته، فالنار جزاء الاستكبار.