خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٣٣
-فصلت

خواطر محمد متولي الشعراوي

بعد أنْ تكلم الحق سبحانه عن الكمال الذاتي للمؤمن الذي استكمل الإيمان وأعلنها: ربي الله، ثم استقام على طريقة، يقول بعد أن استقبل المؤمنُ الإيمانَ وباشرتْ حلاوتُه قلبه يفيض هذا الإيمان منه إلى غيره، وهذه مهمة من مهمات المؤمن أنْ ينقلَ الإيمان، وأنْ ينقلَ الخير إلى الغير.
المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويحرص على إصلاح المجتمع من حوله، المؤمن لا يقف عند ذاته، ولا يكون أبداً أنانياً.
والحق سبحانه يمدح منزلة الدعوة إلى الله، ويجعلها أحسن ما يقول الإنسان: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ } [فصلت: 33] فأشرف الأعمال للذي تشبَّع قلبه بالإيمان أنْ يعدى هذا الإيمان إلى غيره، وأن ينقل له الصورة الإيمانية، فالمؤمن يصنع الخير لنفسه وللناس؛ ذلك لأن خير الناس عائد إليه أيضاً، كما أن شرَّهم لا بدَّ أنْ يناله وأنْ يصيبه من نصيب.
إذن: من مصلحتك أيها المؤمن أنْ يؤمن الناسُ، ومن مصلحتك أيها المستقيم على الجادة أنْ يستقيم الناسُ لذلك حمَّل اللهُ أمانة الدعوة إليه لكل مؤمن، لأنه سبحانه يريد أنْ يُعدَّى الإيمان ممَّنْ ذاقه إلى مَنْ لم يَذُقْه لتتسعَ رقعة الإيمان، ويعمّ الخير الجميع.
وأول عناصر الدعوة إلى الله أنْ ندعوَ إلى العقيدة أولاً وإلى الإيمان بالله، أن نقول: ربنا الله، نُقِرُّ بِها ونعلنها خالصةً بلا تردد، ثم نلفتهم إلى آيات الله في الكون، إلى الآيات الكونية إنْ كانوا لا يتأملونها، وإلى آيات المعجزات المصاحبة للرسل إنْ كانوا لا يعلمونها، ثم إلى آيات الذكر الحكيم التي تحمل منهج الله بافعل ولا تفعل.
وتأمل قوله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً } [فصلت: 33] الحق سبحانه أراد أنْ يُبيِّن لنا منزلة الدعوة إلى الله وفضل الداعية، لكن لم يأتِ بذلك في أسلوب خبري يُقرر هذه المنزلة إنما جاء بهذا السؤال { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً } [فصلت: 33] استفهام غرضه النفي، يعني: لا أحدَ أحسنُ من هذا الذي يدعو إلى الله، ولا قَوْلَ أحسن من قوله.
قالها الحق سبحانه في صورة سؤال لأنه سبحانه يعلم أنه لا جوابَ لها إلا أنْ نقول: لا أحدَ أحسنُ قوْلاً ممَّنْ دعا إلى الله، فجعلنا نحن نعلن هذه الحقيقة ونُقِرُّ بِها، والإقرار كما يقولون سيد الأدلة.
وأول داعية إلى الله هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل داعية من بعده يأخذ من معينه صلى الله عليه وسلم ويسير على خُطاه، ولما كان صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء فقد ترك لأمته هذه الرسالة، رسالة الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فخيْر رسول الله لم ينقطع، بل ممتد في أمته من بعده، وكلُّ داعية بعده إنما يأخذ مقاماً من مقامه صلى الله عليه وسلم.
ومن رحمة الله بهذه الأمة أنْ جعل لها رادعاً من نفسها، جعل فيها فئةٌ باقية على الحق تُقوِّم المعْوج، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وسوف تظل هذه الفئة إلى يوم القيامة، لذلك جاء في حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَنْ خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" .
لذلك قال سبحانه: { { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } [آل عمران: 110].
وهذه خاصية اختصَّ الله بها أمة محمد لأنه خاتمُ الرسل؛ لذلك لن يعم الشرَّ هذه الأمة، ولن يطمَّ فيها الفساد، ففيها حصانة من ذاتها. لقد كانت الأمم السابقة يستشري فيها الفساد حتى يعمَّها، فلا يكون فيها آمر بمعروف ولا ناهٍ عن منكر، وعندها كان لا بدَّ من إرسال رسولٍ جديد، يعيد الناس إلى الطريق المستقيم.
أما أمة محمد فلن يأتي فيها رسول جديد، لذلك جعل الله فيها هذه الحصانة، وجعلها خليفة لرسول الله في الدعوة إلى الله، وجعلها أمينة على هذه الدعوة، لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"الخيرُ فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة" .
وقد بيَّن الله تعالى أن الرسول سيشهد أنه بلَّغ أمته هذه الدعوة، وهذه الأمة ستشهد أنها بلَّغت دعوة رسولها إلى كلِّ الأمم، قال تعالى: { { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً .. } [البقرة: 143].
فشهادتنا على الأمم دليلٌ على أن الخير بَاقٍ فينا ولن ينقطع أبداً.
وقد حثَّنا رسولنا صلى الله عليه وسلم على حمل هذه الأمانة ورغَّبنا فيها حين قال صلى الله عليه وسلم:
"نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، وأدَّاها إلى مَنْ لم يسمعها، فرُبَّ مُبلِّغ أوْعَى من سامع" .
والدعوة إلى الله مجال واسع يكون بالقول وبالفعل وبالقدوة الحسنة، يكون ببيان العقائد والعبادات والأحكام للناس بأسلوب شيق ممتع جذاب، لا يُنفِّر الناس، ولا يذهب بهم إلى يأس أو قنوط من رحمة الله.
الدعوة إلى الله فَنٌّ، اقرأ قوله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم:
{ { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ .. } [آل عمران: 159].
أين دعاتنا من قوله تعالى:
{ { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .. } [النحل: 125].
لا بدَّ أنْ نعلم أنَّ الدعوة إلى الله ليستْ مهمة علماء الدين المختصين فحسب، إنما مهمة كل مسلم في كل زمان وفي كل مكان، كُلٌّ في مجال عمله يستطيع أنْ يكون داعيةً، نعم داعية بفعله والتزامه وتفانيه وإخلاصه.
لقد أجمع علماء الأمة على أن الإسلام ما انتشر بحدِّ السيف، وما انتشر بالقوة بقدر ما انتشر بسيرة المسلمين الطيبة، وما تحلَّوْا به من تسامح وحُبٍّ للآخرين، ولنا فيهم قدوة.
الدعوة إلى الله مهمة كل مسلم ذاق حلاوة الإيمان ولذة التكاليف وأحبَّ للناس ما يحب لنفسه من الخير فينقله إليهم، والحق سبحانه ساعة يُكلِّفنا بالخير لا يترك أحداً ولا يحرم أحداً أنْ يكونَ له نصيبٌ من هذا الخير، ومن ذلك الآن نجد مثلاً المشكلة الاقتصادية والحرب على الاقتصاد وعلى الرغيف وعلى المياه، كيف تُحلُّ هذه المشكلات في المنظور الإسلامي؟
الحق سبحانه وتعالى دائماً يُحنِّن الواجد على المعدم، وبعد أنْ فرض الزكاة في مال الأغنياء للفقراء ترك الباب مفتوحاً لأريحية الغني وحبه للعطاء، فجعل الصدقة نفلا وزيادة لمن ذاقَ حلاوة التكليف.
لذلك قال تعالى مرة:
{ { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [المعارج: 24-25] والمراد بالحق المعلوم الزكاة المفروضة، وقال في الذاريات: { { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [الذاريات: 19] هكذا بإطلاق الكلمة، والمراد الزيادة على الزكاة المفروضة، وهذه نوافل مَنْ فعلها أخذ ثوابها، ومَنْ تركها فلا شيء عليه.
قال تعالى في سورة الذاريات وهو يُبيِّن لنا سبحانه منزلة الإحسان:
{ { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [الذاريات: 15-16] ولم يقل مؤمنين، فما هي درجة الإحسان؟ قالوا: المحسن هو الذي يلزم نفسه بأمر لم يُفرض عليه لكن من جنس ما فرض الله عليه، إذن: فدرجة الإحسان أعلى من درجة الإيمان، فالفرض في الصلاة خمس صلوات، المحسن يُؤديها ويزيد عليها، وإن كان مقدار الزكاة الواجبة في المال 2.5% يخرجها 5% وهكذا في كل أبواب الخير.
وفي آيات سورة الذاريات تفصيلٌ لهذه الزيادة التي يتطوع بها أهل الإحسان.
قال تعالى:
{ { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } [الذاريات: 15-17] وهل فرض الله عليك قيام الليل حتى أنك لا تهجع منه إلا قليلاً؟ لا بل لك أنْ تصلي العشاء وتنام حتى الفجر.
أما المحسن فله مع الليل شأنٌ آخر، إنه ذاقَ حلاوة السهر لله والقيام لله، وشعر بالفيوضات تتنزَّل عليه، ورحمة الله تغشاه، فعشق العبادةَ ووجد فيها لذته وراحته، كذلك
{ { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [الذاريات: 18-19] ولم يقل هنا حق معلوم، لأن الحق المعلوم هو الزكاة، أما الحق المطلق هنا فيراد به الصدقة وهي متروكة لاختلاف حب الناس ودرجاتهم وأريحيتهم في العطاء.
وإذا أحبَّ المؤمنُ الطاعة آثرها على أي شيء آخر، لذلك لو أجريتَ إحصاء للحجاج لوجدتَ أن العوَّادين ثلاثة أضعاف البادئين، وما ذلك إلا لعشق الناس لهذه الفريضة.
لذلك جعل الله في العباد استطراقاً إحسانياً، كلٌّ حسب مرتبته فيه، والقرآن الكريم يعطينا صورة للمؤمن المحبِّ للبذل مع أنه لا يجد شيئاً، قال تعالى:
{ { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } [التوبة: 91-92].
تبين هذه الآيات أن الله تعالى أشاع الخير بين كل الناس، فالواجد عليه أنْ يعطي، وغير الواجد يكفيه أنْ ينصح الواجد وأنْ يحثه على العطاء، فإذا لم يستطع لا هذا ولا ذاك يكفيه أنْ يكون محباً في نفسه للعطاء يشتاق إليه، بل ويبكي أنْ فاتته الفرصة. وهؤلاء صدقتهم هذا الشوق وهذا البكاء. وهكذا لم يحرم الخالق سبحانه أحداً من خيره، ولم يغلق الباب في وجه أحد.
هناك قضية تتعلق بالدعوة إلى الله، هي أن الإنسان منَّا قد يكون عاصياً لربه في ناحية ما، فهل يمنعه هذا العصيان أنْ يكون داعية إلى الله؟ قالوا: ينبغي ألاَّ تمنعك المعصية عن الدعوة، فلعلَّ الذي تدعوه يفعل ما لم تفعله أنت، ولعل هذه عملية جَبْر لما فيك من نقص.
يُحكَى أن رجلاً كان يطوف بالبيت، فسمع آخرَ يقول: اللهم إنك تعلم أنّي عاصيك ولكنِّي أحب مَنْ يطيعك، فاجعل اللهم حُبِّي لمن أطاعك شافعاً في معصيتي.
قالوا: حتى الذي يتكاسل عن الصلاة لا يمنعه ذلك من أن يدعو غيره إلى الصلاة، لأنها خير يشيعه في الناس لن يُحرَم أجره، فكل مَنْ أشاع خيراً له (عمولة) عند الله، وهكذا لا يخلو مخلوق من أنْ يصيبه فضل الله الواسع، ولا يخلو مخلوق من خصلةِ خيرٍ لذاته أو لغيره، وهذه الإشاعة للخير في ذاتها دعوة إلى الله.
وقوله: { وَعَمِلَ صَالِحاً .. } [فصلت: 33] يعني: دعا إلى الله بالقول ثم بالفعل، ودائماً ما يقرن القرآن بين القول والعمل، وعرفنا أن قدوةَ الفعل أعظمُ أثراً في النفوس من قدوة الكلام، وليس من الصواب أنْ تدعو الناس إلى شيء وأنت عنه بنجوى، يقول تعالى:
{ { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [البقرة: 44].
ويقول سبحانه في سورة العصر:
{ { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } [العصر: 1-3].
والتواصي تفاعل بين الناس، بحيث يوصي كلٌّ منهم الآخر، فالطائع يوصي العاصي، وكلُّ واحد منا مُوصٍ في موقف، ومُوصَىً في موقف آخر، لأن الانفعال النفسي بطاعة أو بمعصية لا يدوم، فساعة تنفعل نفسُك للطاعة أَوْصِ مَنْ يعصي، وساعة تنفعل نفسك للمعصية ستجد مَنْ يوصيك وهكذا، لأن النفس ليس لها سيال دائم، وكلٌّ منا يَجْبر ما عند صاحبه، هذا معنى (وتواصوا) أي: فيما بينكم
{ { بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } [العصر: 3].
الحق سبحانه يقسم (والعصر) يعني: والزمن المعدود، يقسم على ماذا؟
{ { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } [العصر: 2] يعني: جنس الإنسان كُلُّه في خُسْر وضياع وضلال لا يستثنى من ذلك { { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } [العصر: 3].
كأن الحق سبحانه يقول لنا: استقرئوا الزمن وتأملوا التاريخ، انظروا إلى الحضارات الغابرة من قديم الزمان، أين هي؟ ماذا بقي منها؟ حضارة الفراعنة في مصر وما وصلتْ إليه من تقدم في علوم لم نتوصَّل إلى أسرارها حتى الآن مع أننا في عصر التقدم العلمي، حتى الأمريكان عجزوا أن يصلوا إلى أسرارها.
ومع ذلك بادتْ وذهبتْ كلُّ هذه العلوم، لأن أصحابها لم يجعلوا لها صيانة تحميها وتضمن لها البقاء، وكان طغيانُ القوم سببَ هلاكهم
{ { وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ * ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } [الفجر: 10-14].
بل هناك حضارات أعظم من حضارة الفراعنة، لكنها مطمورة تحت التراب لا نعرف عنها شيئاً، حتى القرآن لما أخبر عنها أعطانا صورة مجملة عبرتْ عن هذه العظمة
{ { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } [الفجر: 6-8].
نعم هذه حضارات كانت في يوم من الأيام مِلءَ السمع والبصر، لكنها لم تملك أسباب البقاء مع هذا التقدم الذي عاشت فيه، ويكفي أن الله قال عنها
{ { لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } [الفجر: 8]، فكيف كانت إذن؟
وصدق شوقي حين قال:

وَالعِلْمُ إنْ لَمْ تكْتنِفْهُ شَمَائِلُ تُعليهِ كَانَ مَطيَّةَ الإخْفَاقِ

إذن: العمل حين تأخذه من الباقي يبقى، وحين تأخذه من الفاني يفنى.
والذي يبقى هو القِيَم، فكما أخذنا عطاء الله في المادة ينبغي أن نأخذ عطاءه في القيم، فهي الصيانة التي ستُبقِي الأعمال وتجعلها خالدة وتجعل لها معنى وقيمة.
وقوله تعالى: { وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [فصلت: 33] هذا إعلانٌ يعلنه المسلم ويفخر به، وسام على صدره، أنا مسلم، وإسلامي هو المنطلق الذي من خلاله تكون حركتي في الحياة، وهذه في حَدِّ ذاتها دعوةٌ إلى الله ونشرٌ لدين الله وإعلاءٌ لكلمة الله حين لا تنشغل بنفسك إنما تنشغل بدينك.
فإنْ أنجزتَ عملاً تنسبه إلى دين الله، تقول: لأن الله أمرني، فترفع دينَ الله عند الناس ولا تهتم بذاتك الفاعلة، وحين ترفع دين الله ثِقْ أنه رافعك معه.
إذن: فمن صفات المؤمن أنْ ينسبَ خيره وصلاحه لدينه وإسلامه.
لذلك نقف كثيراً عند قول قارون لما أعطاه الله المال والجاه والسلطان، فقال:
{ { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ .. } [القصص: 78] فردَّ الله عليه: ما دمتَ أوُتيته على علم عندك فاحفظه بعلمك، وكانت النتيجة { { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ .. } [القصص: 81] فحين تصل إلى ابتكار أو اختراع أو صلاح في الكون فاجعله من منطلق الدين والمنهج، انسبه إلى دينك.
وتذكَّر الحديث الشريف:
"ومَنْ كانت الآخرة همَّه جمع اللهُ عليه شمله، وجعل غِنَاه في قلبه، وأتتْه الدنيا وهي راغمة" .
لذلك أتعجَّب حينما أسمع أسماء رنَّانة لِنَوادٍ وجمعيات خيرية يقوم عليها الأعيان ووجهاء القوم وسيدات المجتمع، صحيح نراهم يُقدمون المساعدات ويفعلون الكثير من الخير ووجوه البر، لكن حين تسألهم عن المنطلق الذي يعملون من خلاله تسمع مصطلحات أخرى مثل (الماسونية).
ولما عرفوا أن أصلها يهودي قالوا (الروتاري)، أنا أفعل هذا لأني روتاري، سبحان الله قل: لأنني مسلم، لأن إسلامي أمرني بذلك، لماذا لا ترفع نفسك بِرفعة دينك، ولماذا تُفوِّت على نفسك ثواب هذا الخير في الآخرة.
قلنا: إن العمل إما أن يكون لله، وإما أن يكون للناس، العمل لله شرطه الإخلاص وجزاؤك على الله في الآخرة، أما العمل للناس فيعطيك منزلة عندهم ووجاهة ورفعة، هذا جزاؤك وقد أخذته في الدنيا فلا حظَّ لك في ثواب الآخرة، فالإنسان يطلب أجره ممَّنْ عمل له.
لذلك ما سُئلْنَا عن علماء خدموا البشرية باختراعاتهم وإنجازاتهم وابتكاراتهم: هل لهم نصيب في الآخرة؟ نقول: لا ليس لهم نصيب لأنهم فعلوا للناس وللبشرية ولتقدم المجتمع، وأخذوا أجورهم صيتاً وسُمْعة وشهرة وتخليداً لذكراهم .. إلخ.
أما الله فلم يكن أبداً على بالهم حين فعلوا هذه الأشياء، واقرأوا قوله تعالى في شأن هؤلاء:
{ { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [الفرقان: 23].
وفي موضع آخر قال:
{ { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [النور: 39].
هكذا أعمال الكافرين في الآخرة كالسراب تحسبه شيئاً، فإذا ما ذهبتَ إليه لم تجده، وليْتَ أمرهم ينتهي عند هذا الحد إنما تفاجئهم الحقيقة التي طالما أنكروها في الدنيا
{ { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ .. } [النور: 39] نعم الله الذي أنكره أو كفر به يُوقفه ويحاسبه: أنت فعلتَ: ليقال وقد قيل فلا أجرَ لك عندي، ويبقى لك جزاء كفرك وعنادك.
إذن: نقول: ساعة تعلن أنك تعمل وتبتكر من منطلق إسلامك. ساعة تقول عملت لأنني مسلم، تُعلي شأن الإسلام وتلفت غير المسلمين إلى جمال هذا الدين، وأنت في ذلك داعية إلى الله، أنت على نهج نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فإنْ قابلتْكَ بعضُ الصعاب فاصبر، لأن رسولك أُوذِي في سبيل دعوته فصبر.
فالذي يحمل أمانة الدعوة ويعلنها: أنا مسلم، وإسلامي هو الضابط لكل حركاتي في الحياة ويصيبه سوءٌ يعلم أنه أخذ طرفاً من ميراث النبوة، فما من نبي إلا أوذي وكان له أعداء، فلا بدَّ لحَمَلة هذه المسئولية أنْ يكون لهم أعداء، وأنْ يُشتموا وأن تُكال لهم التهم، هذا أمر طبيعي في مسيرة الدعوة إلى الله.
يقول تعالى:
{ { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً .. } [الأنعام: 112].
هذا يعني أن الداعية الذي يِسْلم من هذا الإيذاء ينقص حظُّه من ميراث النبوة، وحظه من تركة النبي صلى الله عليه وسلم، إذن: اصبر، وهل تابعُ محمد خيرٌ من محمد حتى يَسْلم من الأذى؟
فإذا لم يكُنْ لك أعداء في طريق الدعوة فاعلم أنك لستَ على الطريق الذي رسمه لك صاحبُ الدعوة، وعليك أنْ تراجع نفسك.
الكلام هنا عن الدعوة إلى الله بحقٍّ وتجرُّد وإخلاص، وعن الكلمة تُقال في سبيل الله لا في سبيل جاه أو سلطان أو منصب من متاع الدنيا الزائل، الدعوة إلى الله لا تكون أبداً قنطرة.
لذلك نقول: ما الذي يحمي الدعاة إلى الله الآن، وها نحن نقول بأعلى صوت ونكتب في كل وسائل الإعلام، والله هو الحامي، والحمد لله لم نُؤخذ ولم نُسْجن، ولم يتعرض لنا أحد، كثير من علماء الدين يعلنون كلمة الحق مجردة من الهوى والمصلحة، وساعة يعطي لهم الحاكم أذنه يُسمعونه من الكلام ما يرعشه، ومع ذلك نسمع عن اضطهاد رجال الدين.
ونقول: إذا اضطهد رجل الدين فلا بُدَّ أنه استعمل وسائل محرمة في الدعوة إلى الله، كهؤلاء الذين يميلون إلى حَلِّ المشاكل بالقتل والدماء، أنت على خلاف مثلاً مع وزير من الوزراء تضربه بالنار؟ هل هذا هو الحل؟ وما ذنب الحراس الذين تُهدر دماؤهم وتُيتَّم أطفالهم؟
أنت صاحب كلمة، قُلْ ما شئتَ وأصلح بالكلمة الطيبة، أسمعهم ما يكرهون، وسبق أنْ قلنا لهم ما لم يستطع أحدٌ أن يقوله عندهم، لأن الشجاعة الإيمانية في الدعوة إلى الله ليستْ كلمة حَقٍّ تُقال على سلطان، إنما كلمة حق تقال عند سلطان جائر، نعم عنده في حضوره.
وهذا تطبيق عملي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" .
نحن لا نتاجر بالكلمة، إنما نواجه بها كل حاكم ظالم، نقول له: نحن لا نكرهك ولا نطمع فيما في يدك من الحكم، بل نحن نحبك ونريد أنْ نعينك على مهمتك، فقط نريد منك أنْ تحكمنا بالإسلام، أريد أنْ أُحْكَم بالإسلام، لا أن أُحكُمَ بالإسلام.