خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
عۤسۤقۤ
٢
-الشورى

خواطر محمد متولي الشعراوي

هذه الحروف من الحروف المقطَّعة التي تقع في بدايات بعض سور القرآن الكريم، وقد سبق الحديث عنها في أكثر من موضع، ولكنا نُذكّر بأن القرآن كله مبنيّ على الوصل، الوصل في آياته، والوصل في سُوره، والوصل في آخره بأوله.
فأنت تقرأ:
{ { مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } [الناس: 6] هكذا بالكسر لتصلها ببسم الله الرحمن الرحيم في الفاتحة. أما الحروف المقطعة فهي مبنية على الوَقْف، بحيث يُقرأ كلّ حرف على حِدَة تقول هنا (حا ميم عين سين قاف).
وأنت تقرأ في أول البقرة (ألف لام ميم) وتقرأ نفس الحروف في أول سورة الشرح:
{ { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [الشرح: 1] لتعلم أن القرآن ليس كأيِّ كتاب آخر، وأن قراءته تعتمد أولاً على السماع، قال تعالى: { { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة: 18-19].
إذن: حين تتدبر القرآن تجد للقراءة بالوصل حكمة، وللقراءة بالوقف حكمة، ومعلوم أن الحرف هو اللبنة الأولى في بناء الكلمة وبالتالي العبارة، وقد بيَّن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية الوقف على هذه الحروف، فقال:
"لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" .
وحروف اللغة قسمان: حروف مبني وهي اللبنات التي تدخل في بناء الكلمات والعبارات، فكلمة كتب تكوَّنت من الكاف والتاء والباء، وهذه الحروف لا تعطي معنىً إلا إذا تركبت مع بعضها لتكوِّن الكلمات، والأخرى حروف معنى مثل كاف التشبيه في الجندي كالأسد، فالكاف هنا أفادت معنى التشبيه، وهذه الحروف لا تعطي معنىً إلا إذا رُكِّبتْ مع غيرها من الكلمات.
واللغة عامة ظاهرة اجتماعية، وهي ألفاظ يُعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم، وبها يتفاهمون، واللغة كما قال العلماء بنت المحاكاة، فما سمعتْه الأذن يحكيه اللسان، فالولد الذي ينشأ في مجتمع عربي يتكلم العربية، ولو كان في مجتمع إنجليزي لتكلَّم الإنجليزية.
إذن: ليست اللغة جنساً ولا دماً، بل ظاهرة اجتماعية تعتمد على السماع، حتى في داخل اللغة الواحدة قد تسمع الكلمة لأول مرة فلا تفهمها ولا تعرف معناها، مع أن ألفاظها عربية لكنها لم تمرّ بسمعك من قبل.
يُرْوى أن أبا علقمة النحوي كان مُغرماً بالفصحى، ولا ينطق إلا بها، فكان يأتي بألفاظ غريبة حتى شَقَّ ذلك على خادمه الذي كان لا يفهم كثيراً من هذه الألفاظ، وفي إحدى الليالي استيقظ من نومه وسأل الخادم: يا غلام أصقعتْ العتاريف؟ لم يفهم الغلام إلا أنه ردَّ في ضيق وقال له: زِقْ فَيْلم فتعجَّب أبو علقمة وقال له: وما زِقْ فَيْلم؟ قال الغلام: وما صقعت العتاريف؟ قال: أردتُ أصاحتْ الديَكة؟ قال: وأنا أردتُ لم تَصِحْ؟
ومن نوادر اللغة أن أحدهم ذهب إلى الطبيب، فقال له الطبيب وكان اسمه أعين: ما بك؟ قال: أكلت من لحوم هذه الجوازيء فطسأت منها طسأة أصابني منها وجع من الوابلة إلى دأْية العنق ولم يزل يَنْمي حتى خالط الحلْب وأَلِمَتْ منه الشراسيف، فقال الطبيب: أعِدْ عليَّ فوالله ما فهمتُ منك شيئاً، فأعاد كالأولى، فردَّ الطبيب وقال له: خُذْ حرقفاً وسلقفاً وسرقفاً وزهزقه وزقزقه بماء روث ثم اشربه، فقال الرجل: أعِدْ عليَّ فوالله ما فهمتُ منك شيئاً. فقال الطبيب: لعن الله أقلَّنا إفهماماً لصاحبه.
إذن: نقول إن اللغة بنت المحاكاة، فهي تعتمد أولاً على السماع، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان، فالولد الصغير يتعلم الكلام من أسرته وممن حوله، أما الأخرس فإنه لا يتكلم لأنه لم يسمع؛ لذلك قال تعالى:
{ { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [البقرة: 18] فالبَكَم لا يأتي إلا بعد الصَّمم، ولو سلسلنا مسألة تعلُّم الكلام هذه سنصل بها إلى أبينا آدم عليه السلام، فكُلٌّ منا تعلم الكلام من أبيه وأمه ممن حوله، أما آدم عليه السلام فعلَّمه ربه، كما قال سبحانه: { { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [البقرة: 31] يعني أسماء الأشياء، فالله سبحانه هو المعلم الأول.
وفي الحروف المقطعة هذه ملحظ هام، فهي تعلِّمنا الإيمان بالغيب، كيف؟ الحق سبحانه وتعالى له في خَلْقه غيب ومشهد، وقد جعل سبحانه للغيب مشهداً يدل عليه، ففي مجال العقائد مثلاً أنا معتقد أن لهذا الكون إلهاً خالقاً، وهذه العقيدة يمكن أنْ أدلِّل عليها بالآيات الكونية الموجودة المشاهدة.
لكن يأتي في العقيدة أيضاً مسائل غيبية ليس لها دليلٌ من المشهد المُحَسِّ، مثل الإيمان بالملائكة وهي غيب، وما دام هناك تكاليف وطاعة ومعصية فلا بدَّ أنْ توجد جنة ونار، وقبلها مرحلة القبر وما فيه من نعيم أو عذاب، كل هذه أمور سمعية لا يُقام عليها دليل عقلي، إنما نؤمن بها لأن الإله الذي آمنا به أخبرنا بوجودها ونحن نثق في خبره.
إذن: كل إيمان عقدي مُشَاهد يأخذ بجانبه إيماناً غيبياً، والإيمان بالغيب هو الأهم لأنه المحكّ في مسألة الإيمان، وهو الدليل على قوة العقيدة، لأن الإيمان بالمشهد يستوي فيه الجميع.
قلنا: هَبْ أن عندك خادماً وقلتَ له: يا فلان ارفع هذا الحجر في الحديقة مثلاً فيقول لك: إنه ثقيل لا أقدر على رفعه تقول له: إنَّ تحته كيس النقود الذي سأعطلك منه راتبك فيسرع إليه ويرفعه، هذا آمن بالغيب أم بالمشهد؟ آمن بالمشهد, لم يثق بك وإنما بكيس النقود.
إذن: المحك الحقيقي للإيمان هو الغيب، لذلك قال تعالى في صفات المؤمنين
{ { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } [البقرة: 3] لأن المحسَّ والمشَاهد الكل يعرفه ويؤمن به.
كذلك الحال في كلام ربِّ العالمين وفي قرآنه الكريم كلام وحروف لها معنى، وحروف أخرى ليس لها معنى واضح نعرفه ونفهم تفسيره، وهذه هي الحروف المُقطَّعة نؤمن بها ونُصدِّق بها على أنها من الغيب.
وسبق أنْ أوضحنا أن الحروف المقطعة في بدايات السور أخذت نصف حروف المعجم يعني أربعة عشر حرفاً، والمتأمل في هذه الحروف يجد لها نظاماً ورتابة لم تُؤخذ هكذا كيفما اتفق، فلو قسَّمنا حروف الهجاء إلى تسعة حروف في أولها وتسعة في آخرها ويتبقى عشرة في الوسط نجد الحروف المقطعة أخذت فقط حرفين من المجموعة الأولى هما الألف والحا وترك سبعة، وأخذت سبعة من المجموعة الأخيرة وتركت اثنين، وأخذت من الوسط الحروف غير المنقوطة وتركت المنقوط، إذن: لها موازين ولها حكمة.
ونحن نحاول ونفكر في معاني هذه الحروف، ويحوم العقل حول هذه المعاني قد يبلغ بعضها، وقد يقف عاجزاً يقول: الله أعلم بمراده، وكُلُّ عالم يحاول فَهْم هذه الحروف أو استجلاء الحكمة منها مجتهد ومُثَاب، أصاب أو جانبه الصواب.
المهم أن الحق سبحانه يريد منا أن نؤمن بهذه الحروف، وأن نقبلها كما هي، عرفنا معانيها أو لم نعرف، فهي أشبه بأسنان المفتاح الذي يعنيك منها أنْ تفتح لك دون أنْ تعرف لها نظاماً، ويكفي أن صاحبها يعرف أسرارها، وأنها تؤدي لك مهمتها على ما هي.
فصحيح أننا نحوم حول هذه المعاني وقد نصل إلى شيء منها، لكن يظل للقرآن إعجازه، وتظل هذه الحروف محتفظة بعطاء متجدد لا ينفد. والقرآن لما تحدَّى العرب وأعجزهم، البعض فهم من ذلك أنه تقليل من شأن العرب، لكن هذا التحدي يعني براعتهم في هذا المجال وتمكّنهم منه وإلا ما تحداهم القرآن، إذن: تحدَّى القرآن لهم شرف لهم وإعلاء لشأنهم، ويكفي أن الله جعلهم المقياس في هذه المسألة.
والقرآن حين تحدَّى العرب لم يأت بكلمات جديدة ولا بحروف جديدة، فهي نفس الحروف ونفس الخامات التي تتكوَّن منها لغتهم، ومع ذلك ظل كلام الحق سبحانه هو المعجز، ولم يستطيعوا الإتيان بمثله، فوجه الإعجاز هنا أن القرآن كلام الله، الله هو الذي يتكلم، فكلامه مُعْجز لأنه سبحانه يضفي عليه من قدرته، وكلامك أنت أيها العبد غير معجز لأن فيه شيئاً من عجزك.
وسورة الشورى من سُوَر الحواميم. يعني: السور التي بدأتْ بقوله تعالى (حم) وقد رأينا أن هذه الحروف جاءت بحرف واحد مثل (ن) و (ق) و (ص). وجاءت بحرفين مثل (طس). وجاءت على ثلاثة أحرف مثل (الم) و (طسم) وجاءت على أربعة أحرف مثل (المر) و (المص). وعلى خمسة أحرف مثل (حم عسق) و (كهيعص) وهذه الحروف لا تُعرف معانيها، ونؤمن أنها من الغيب الذي يجب علينا التسليم به، وأن نقول في تفسيرها: الله أعلم بمراده.