خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٣
-الشورى

خواطر محمد متولي الشعراوي

الكاف في { كَذَلِكَ } حرف معنى يفيد التشبيه و { ذَلِكَ } إشارة إلى الحروف المقطعة السابقة، يعني بمثل هذه الحروف { يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ } [الشورى: 3] فهذه الحروف من وحي الله إلى نبيه محمد، وما يأتي بعدها أيضاً من وحي الله.
والوحي: هو إعلام بخفاء من المتكلم للسامع، فلو جاءك ضيف وتريد أن تخبر خادمك بأمر دون أنْ يُحسَّ به الضيف، فإنك تنظر إلى الخادم أو تهمس إليه بطريقة ما يفهم منها ما تريد، فكأنك أوحيتَ إليه بهذا الأمر.
والوحي يقتضي: مُوحِياً، ومُوحَىً إليه، ومُوحَىً به، وقد أخبرنا الحق سبحانه أنه يوحي لمن يشاء من مخلوقاته، يوحي إلى الملائكة:
{ { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ .. } [الأنفال: 12].
ويوحي للرسل:
{ { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ .. } [النساء: 163].
ويوحي إلى الصالحين من عباده، كما أوحى إلى الحواريين، وكما أوحى إلى أم موسى، وأوحى للنمل، وأوحى إلى الأرض وهي جماد:
{ { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [الزلزلة: 5].
كذلك أخبرنا الحق سبحانه أن الشياطين يوحي بعضهم إلى بعضهم، ومثلهم شياطين الإنس، قال تعالى:
{ { وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ .. } [الأنعام: 121] أي: من الإنس وقال: { { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } [الأنعام: 112] والوصف العام لكلمة الوحي أنه بخفاء، هذا في المعنى العام لكلمة الوحي، وهو يكون بالخير ويكون بالشر.
أما الوحي الشرعي المقصود هنا فالذي يكون من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بواسطة الملَك جبريل عليه السلام، قال تعالى:
{ { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الشورى: 51].
إذن: الوحي الشرعي: إعلام من الله لمن اختاره من الرسل بإحدى هذه الوسائل: أن يرسل إليه مَلَكاً أو عن طريق الإلهام، وسبق أنْ أوضحنا أن وارد الرحمن لا يصطدم بوارد الشيطان، لأن وارد الرحمن أقوى لا ينازعه شيء.
ففي قصة أم موسى، قال تعالى
{ { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ } [القصص: 7] الوحي هنا بمعنى ألهمها، أو نفث في روعها، أو مرَّر بخاطرها { { أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ } هذا أمر العقل لا يقبله، لكنه لما كان من الله لم يعارضه اختيار آخر وأذعنتْ له أم موسى ونفَّذته على الفور.
لذلك لما أراد الحق سبحانه أنْ يعلِّم صحابة رسول الله أمور دينهم أنزل إليهم جبريل في صورة رجل، وأخذ يسأل رسول الله عن الإيمان وعن الإسلام وعن الإحسان وكان يسأل ويصدق؛ لذلك تعجب منه الصحابة: كيف يسأل ويصدق، ولما انتهى الدرس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إنه جبريل جاء يعلمكم أمور دينكم" .
وتبين هذه الآية: { كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [الشورى: 3] أن الموحي هو الله عز وجل ولم تقل مثلاً ربك، فاختارت لفظ الألوهية لماذا؟ الله هو المعبود بحقٍّ، والمعبود يعني له منهج وله تكاليف فيها أوامر وفيها نواه، فعطاء الألوهية كما قلنا عطاء تكليف، أما عطاء الربوبية فتربيةً ورعاية ومنح دون مقابل.
فالحق سبحانه وتعالى في العطائيْن لا يعود عليه من العباد شيء ولا ينتفع منهم بشيء، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، وما جعل التكليف والمنهج إلا لإسعاد العباد وسلامة المجتمع.
كأن الله يقول لنا: أريدكم سعداء في مجتمع نظيف طاهر يقوم على المحبة والسلام، ويخلو من الغل والحسد والنفاق، مجتمع يقول وينبه على الفضيلة ويخلو من الرذيلة، ذلكم لأنكم عبادي وصنعتي، وكل صانع يريد لصنعته الصلاح، ويربأ بها عن الفساد.
لذلك قلنا: إن الرجل العاقل لا يحقد على مَنْ هو أعلى منه في ناحية من النواحي ولا يحسده، وإذا اصطدم بظالم لا يدعو عليه إنما يدعو له، وإذا رأى فساداً أصلحه، وإذا رأى غير المسلمين تمنى لو كانوا مسلمين، لماذا؟ لأنه سيسعد بإصلاح هؤلاء، وسيجني ثمار صلاحهم واستقامتهم، وسيعود عليه خيرهم.
وقوله تعالى: { ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [الشورى: 3] إشارة إلى أن الموحي بهذا الوحي والمنزِل لهذا الكتاب ولهذا المنهج (الله) أي: صاحب التكاليف والآمر بها.
الله: عَلَم على واجب الوجود، بعضهم قال: هو مشتق من أله من العبادة، ومألوه يعني معبود، وبعضهم قال: الله عَلَم على الذات، لا تجد فيه إلا صفة العَلَمية على واجب الوجود، وهذا العلم موصوف بكل صفات الكمال، فهو القوي العزيز الجبار المتكبر الرحيم الحكيم الغفور الوهاب القهار. هذه من أسماء الحق سبحانه وهي صفات كمال لاسم الله، لذلك قال تعالى:
{ { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ } [الإسراء: 110].
الحق سبحانه يُعلِّمنا كيف ندعوه في شتى أمورنا، فمَنْ أراد العلم يدعو العليم، ومَنْ أراد القوة يقول يا قوي قوِّني، ومَنْ أراد الحكمة يقول: يا حكيم ألهمني الحكمة، ومَنْ أراد سعة الرزق قال: يا باسط ابْسُطْ لي الرزق، فإذا أراد كلّ هذه الصفات قال: يا الله. فهو الاسم الجامع لكل صفات الكمال.
وهو سبحانه في تكاليفه لكم { ٱلْعَزِيزُ } يعني: غالب لا يغلب، وله صفات العزة والجبروت والغنى والاستغناء عن الخلق.
ثم هو سبحانه { ٱلْحَكِيمُ } يعني: حين كلّف كلّف بقدر وبحكمة ذلك لأن القرآن به تكاليف قد يراها البعض شاقة، لكن إذا أخذنا هذه التكاليف بمصاحبة ثمرتها والثواب عليها نجدها سهلة يسيرة لأنها تُدِر عليك نفعاً تهون أمامه كل المشاق.
ألاَ تراك تتعب في الدنيا ثم تجني من الثمار على قدر تعبك، ألاَ ترى أن نفاسة النتيجة على مقدار الكَدِّ؟ أنت في الدنيا مثلاً تزرع الفجل تجده فجلاً، وتستطيع أنْ تأكل منه بعد عدة أيام، وتزرع مثلاً الخيار وتأكل منه بعد أربعين يوماً والأرز مثلا بعد عدة شهور، وتزرع المانجو فلا تعطيك إلا بعد عدة سنوات.
إذن: إذا كلَّفك الله بشيء فيه مشقة، فاعلم أن الثمرة على قدرها، واعلم أن الذي أوحى إلى النبي بهذا التكليف عزيز حكيم، فإنْ كان شاقاً في نظرك فمُكلِّفك به غنيٌّ عنك وعن طاعتك لا يستفيد منه بشيء بل أنت المستفيد، وهو حكيم يعني كلَّفك بما يؤدي إلى سلامة حركتك في المجتمع.
وهذه العزة لله تعالى فهمها إبليس حين قال:
{ { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص: 82] يعني: بغناك عنهم، وترك الاختيار لهم { { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [الكهف: 29] وإلا فالذي تريده وتستخلصه لك لا أستطيع أنْ أقترب منه: { { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [الحجر: 40].
إذن: المعركة ليست بين الحق سبحانه وبين إبليس، إنما بينه وبين بني آدم، وهي معركة ممتدة منذ مسألة الأمر بالسجود لآدم وإلى قيام الساعة، وقد ظهر غباء إبليس في الحوار الذي دار بينه وبين الحق سبحانه، ثم بينه وبين سيدنا آدم، ففي قوله:
{ { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16] كشف عن خططه وطريق إغوائه لبني آدم، وأنه سيأتيهم في أماكن الطاعات ليفسدها عليهم.
لكن الحق سبحانه وتعالى علَّمنا كيفية التعامل مع هذا العدو، وعلَّمنا كيف نرده، فقال تعالى:
{ { وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [الأعراف: 200] يعني الجأ إلى الله، وذَكِّره بالله لأنه خنَّاس إذا ذكر الله خنس، وهذه وصفة إياك أن تغفل عنها.
وظهر أيضاً غباؤه وتغفيله في قوله لآدم وحواء وهما في الجنة:
{ { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَالِدِينَ } [الأعراف: 20] فلو كان يعلم أنها شجرة الخلد لأكل منها من باب أوْلى، ولم يسأل الله أنْ يُنظره إلى يوم يبعثون، وهذه غفل عنها آدم أيضاً، وقد قال الله في حقه: { { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [طه: 115]؛ ولذا لا نعتب على من نَسِي؛ فإن المُوَصَّيْن بنو سَهْوان.