خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَٱللَّهُ هُوَ ٱلْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٩
-الشورى

خواطر محمد متولي الشعراوي

بعد أنْ قرر الحق سبحانه أن الظالمين ما لهم من ولي ولا نصير يسوق هذا السؤال: { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } [الشورى: 9] هل لهم أولياء لا نعلمهم، فالاستفهام هنا للنفي والإنكار، وما داموا ليس لهم أولياء فلماذا لم يتخذوني ولياً لهم، أو يكون المعنى: بل اتخذوا من دونه أولياء، وعليهم أن يتفكروا في ذلك، وأنْ يراجعوا أنفسهم.
{ فَٱللَّهُ هُوَ ٱلْوَلِيُّ } [الشورى: 9] الولي الحق لمَنْ أراد ولياً وناصراً { وَهُوَ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الشورى: 9] جاء هنا بصفتين لا يستطيعهما أحد من أوليائهم إحياء الموتى والقدرة، وهذه الصفات الخاصة به سبحانه نجدها في القرآن دائماً مقرونةً بضمير الفصل للتأكيد على أنها لله وحده لا يشاركه فيها غيره، لذلك قال: { فَٱللَّهُ هُوَ ٱلْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الشورى: 9].
وقال سبحانه:
{ { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } [النجم: 43-44] فهذه أفعالٌ لا يقدر عليها إلا الله وحده، فمعنى أضحك وأبكى أوجد فيك غريزة الضحك وغريزة البكاء، بدليل أنها موجودة في كل بني آدم وفي كل الجنسيات، الضحك واحد عند العرب، وعند الهندي، وعند الروسي ومثله البكاء فهي إذن غريزة، وكذلك مسألة الحياة والموت هي لله وحده لا يقدر عليها أحدٌ سِوَاه.
وفي قصة سيدنا إبراهيم يقول وهو يُعدِّد نِعمَ الله عليه:
{ { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [الشعراء: 78-81].
ففي الأمور التي فيها شبهة فعْلٍ لغير الله يأتي بضمير الفصل (هو) لتأكيد أن الفعل لله وحده كما في { فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء: 78] لأن الهداية قد تأتي على يد أحد من البشر، وفي { يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } [الشعراء: 79] فالأب مثلاً قد يظن فيه أنه الذي يُطعمني ويَسْقين، كذلك في { يَشْفِينِ } [الشعراء: 80] لأن الطبيب قد يظن البعض أن بيده الشفاء، أما في الأفعال التي لا شبهة لتدخّل أحد فيها فيأتي بها دون توكيد لأنها خالصة لله تعالى دون منازع { وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [الشعراء: 81].
وإحياء الموتى يُراد به البعث في الآخرة، وقد رأينا مثالاً له في الدنيا كقصة العُزَير التي حكاها القرآن:
{ { أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 259].
ذلك لأن الشعور بالزمن يأتي من الأحداث، فحين تنعدم الأحداث ينعدم الشعور بالزمن، لذلك لما مات عُزير مائة عام قال لما أحياه الله: لبثتُ يوماً أو بعض يوم، فأراد الحق سبحانه أنْ يُثبتَ له صدقه في يوم أو بعض يوم بنظره إلى طعامه الذي كان معه حيث وجده كما هو لم يتغير ولم يتلف، وأن يثبت صدق الحق سبحانه في المائة عام، فقال له: انظر إلى حمارك وكيف صار عظاماً بالية، وهذا لا يحدث إلا في مائة عام.
وقوله تعالى: { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الشورى: 9] دلتْ على طلاقة القدرة لله تعالى، وهذه القدرة مُشَاهدة في آياته الكونية في السماوات وفي الأرض وفي الأنفس، كلها تشهد لله بالقدرة المطلقة.
نعم، الله على كل شيء قدير وقد أرانا نماذجَ من إحياء الموتى في الدنيا لنأخذ منها دليلاً على صدقه تعالى في إحياء الموتى في الآخرة، مرت بنا قصة إحياء العزير الذي أماته الله مائة عام.
نموذج آخر في قوله تعالى:
{ { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } [البقرة: 243].
ومن عظمة الحق سبحانه وقدرته على كل شيء أنْ يُعدى إلى خلقه شيئاً من قدرته، فيجعل مثلاً سيدنا إبراهيم قادراً على إحياء الموتى بإذن الله، القوي من البشر مثلاً حين يرى ضعيفاً يعينه ويعدى إليه أثر قوته فيحمل له متاعه ويظل الضعيف ضعيفاً.
أما الحق سبحانه فإنه حين يُعدِّي قوته إلى عبده يجعله يفعل بنفسه وينقل إليه شيئاً من قدرته ومن صفاته تعالى فتصير القوة فيك ذاتية. تعرفون قصة سيدنا إبراهيم لما أراد أنْ يرى عملية إحياء الموتى بنفسه فطلب من ربه ذلك:
{ { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [البقرة: 260].
يعني: يا رب أنا مؤمن ومصدِّق لكن أريد الاطمئنان، أريد الترقي إلى مرتبة أعلى في الإيمان، بعض المستشرقين يقولون في التعليق على هذه الآية: هل الإيمان غير اطمئنان القلب؟ وما دام طلب اطمئنان القلب فالإيمان إذن ناقص.
نقول: سيدنا إبراهيم عليه السلام لم يقُل: رب هل تحيي الموتى أم لا؟ لقد قال:
{ { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } [البقرة: 260] فهو مؤمن بإحياء الله للموتى ومُصدِّق بقدرة الله على ذلك ويريد أن يعرف الكيفية، فالاطمئنان للكيفية لا لإثبات الصفة لله تعالى، كما لو قلتُ لك: كيف بنيتَ هذا المسجد، هل أنا أشكّ في بنائه؟ لا فهو موجود بالفعل لكن أريد أن أعرف الكيفية.
لذلك الحق سبحانه ردَّ على نبيه إبراهيم رداً منطقياً، فكيفية إحياء الموتى لا تُعرف بالكلام إنما بالفعل والممارسة، فجعله يمارس هذا الفعل بنفسه ويزاول عملية إحياء الموتى ويعاينها
{ { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } [البقرة: 260] يعني: تأكد منهن ومن علاماتهن ثم اذبحهن { { ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ .. } [البقرة: 260] إذن: أنت الفاعل بنفسك، وهذه من عظمة الخالق سبحانه.
إذن: { وَهُوَ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } [الشورى: 9] يعني: عملية مقصورة عليه سبحانه، حتى وإنْ عداها لمن يشاء من عباده فهو صاحبها { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الشورى: 9] تجد بعض المخلوقات لها قدرة كما في بعض البشر مثلاً، أو بعض الملائكة التي اتخذوها من دون الله، لكنها قدرة محدودة فإنْ قدرتْ الملائكة مثلاً على فعل شيء عجزتْ عن أشياء، أما الحق سبحانه فقدرته مطلقة لا يعجزها شيء، قدرة كاملة على كل شيء.