خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَـٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ
٤٦
-الزخرف

خواطر محمد متولي الشعراوي

قلنا: الآيات هي المعجزات الدالة على صدق الرسول في البلاغ عن الله، وسيدنا موسى عليه السلام كان من أكثر الرسل حيازةً للمعجزات وخوارق العادات، وهذا يعني أن قومه كانوا أكثر خَلْق الله عناداً وإعراضاً عن المنهج، قال تعالى: { { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [الإسراء: 101].
ما مناسبة أنْ يأتي القرآنُ بلقطة من قصة سيدنا موسى في هذا الموضع؟ قالوا: لأن كفار مكة كانوا قد اجتمعوا ووقفوا في وجه الدعوة، واعترضوا على أنْ تأتي الدعوة على يد محمد بالذات، فقالوا: { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
يقصدون مكة وكان فيها الوليد بن المغيرة، والطائف وكان بها عروة بن مسعود الثقفي، وغيرهما من سادة القوم أصحاب المال والجاه والهيبة في القوم.
إذن: لم يكُنْ الاعتراض على القرآن، إنما الاعتراض على مَنْ جاء القرآنُ على يديه.
لذلك أراد الحق سبحانه أنْ يعطيهم مثلاً من موكب الرسالات، فهذا موسى - عليه السلام - لم يكُنْ صاحبَ مال، ولا صاحبَ جاه ولا سلطان، وأرسله الله إلى مَنْ هو أشدّ كفراً من أهل مكة وصناديدها، أرسله إلى فرعون الذي لم يكُنْ يعارض الدعوة إلى الله فقط، إنما كان يقول: أنا إله.
إذن: لا عجبَ في إرسال محمد، وهو من عامة القوم وفقرائهم إلى السادة الأغنياء، وهو الوليد وعروة وغيرهما من رؤوس الكفر كانوا أشدَّ من فرعون.
فالرسالة إذن لا يُطلب فيها أنْ يكون الرسولُ صاحبَ مال ولا صاحبَ جاه ولا سلطان، ثم هذه رحمة الله يقسمها كيف يشاء، ويختار لها مَنْ يشاء، ويصطفي من عباده.
والمتأمل في رسالتَيْ موسى ومحمد يجد أن حياة موسى في مجتمعه أقل من حياة محمد في مجتمعه، لأن موسى تربَّى في بيت فرعون إلى أنْ شبَّ وحدَثتْ حادثة القتل التي قَتلَ فيها موسى واحداً من القوم، ثم جاء رجل من أقصى المدينة، وقال
{ { يٰمُوسَىٰ إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَٱخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ ٱلنَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } [القصص: 20-21].
بعد ذلك وصل إلى مديْنَ وهناك وجد:
{ { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص: 23-24].
أولاً: نقول إن هذه الأيام تعطينا منهجاً ودستوراً للتعامل مع المرأة المسلمة، وكيف ومتى تخرج من بيتها، فالعلة في خروج هاتين المرأتين أن أباهما شيخ كبير، ولا يوجد مَنْ يقضي لهما حاجتهما.
إذن: لا تخرج المرأة من بيتها إلا لضرورة، وإذا خرجتْ تحشَّمتْ وتحجبتْ ولم تخالط الرجال، ثم مهمة المجتمع الإيماني أنْ يراعي حَقَّ المرأة وأنْ يأخذ بيدها فيما تريده من عمل، لأنه مجتمع الرحمة والقربى بين المسلمين جميعاً.
وأذكر أننا أول مرة سافرنا مكة سنة 1950 كنا نسكن في بيت رجل مُوسِر، كان يتطوع ويُوصِّلنا إلى العمل بسيارته الخاصة، وفي مرة ونحن نسير وجد أمام أحد البيوت لوحاً من الخشب الذي يُوضع عليه العجين، وكان بابُ البيت مغلقاً فنزل وأخذ اللوح في سيارته وذهب.
فلما سألتهُ عن ذلك قال: والله عندنا عادة لما نرى البابَ مُغلقاً، وأمامه شيء مثل هذا، نعرف أن صاحبَ البيت غائبٌ وأهلُ البيت يحتاجون شيئاً فنقضيه لهم، المهم أخذ الرجل لوحَ العجين وملأه بالخبز، وبما قدَّره الله عليه، وأعاده إلى أصحابه.
وهذا هو المعنى الذي تعلَّمناه من قصة سيدنا موسى
{ { فَسَقَىٰ لَهُمَا } [القصص: 24] ونعود إلى القصة { { ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص: 24] يعني: موسى كان رجلاً فقيراً، لا يملك من الدنيا سِوَى قوته البدنية، فهذا الذي يجلس تحت ظل شجرة ليس له مأوى، أبعد ذلك مسكنة وضعف؟
هذا يدل على أنه كان رجلاً (غلبان) لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، ولو قارنّا بينه وبين محمد نجد محمداً أطولَ إقامة في قومه، فقد نشأ بينهم منذ مولده، وكان يرعى الغنم لأهله بأجرة، ولما كبر اشتغل بالتجارة، وكان كما نقول (مدير أعمال) السيدة خديجة، وكان يكسب ومعه مالٌ.
ومع ذلك أرسل اللهُ موسى الذي هو أضعف من محمد إلى فرعون الذي هو أقوى وأشدّ من الوليد وعروة وغيرهم. وبهذا نفهم لماذا أتى ذكْرُ سيدنا موسى في هذا الموضع: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَـٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ } [الزخرف: 46].
ثم هناك نقطة ضَعْف أخرى في رسالة سيدنا موسى أنه أُرسِلَ إلى فرعون الذي تربَّى في بيته، لذلك الحق سبحانه يُعلِّمه كيفية الدخول إليه في أمر الدعوة لأنه كان يمتنُّ عليه.
{ { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [الشعراء: 18] فعلَّمه الله أن يقول له القول اللين { { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [طه: 44].
وقوله: { بِآيَـٰتِنَآ } [الزخرف: 46] أي: بالمعجزات الظاهرات التي صاحبتْ دعوة سيدنا موسى لتؤيده وتُثبت للقوم صِدْقه في البلاغ عن الله، وقلنا: إنه يُشترط في المعجزة أنْ تكون موضعاً للتحدي، بحيث لا يقدر أحدٌ على الإتيان بمثلها، وأنْ تكونَ من جنس ما نبغ فيه القوم ليكون التحدي له معنى، وإلا كيف أتحدَّاك بشيء لا تعرفه أنت ولا تجيده؟
ولأن قوْم موسى نبغوا في السحر كانت معجزةُ العصا من المعجزات التي أعطاها الله تعالى لسيدنا موسى، وقد درَّبه ربُّه عز وجل على استخدام هذه العصا وعرَّفه ما فيها من أسرار قبل لقائه بفرعون.
واقرأ:
{ { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ * قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } [طه: 17-20].
كان هذا الموقف تدريباً لموسى على استخدام معجزته أمام فرعون، وعندها علم موسى أنه إذا كانت مآربه من عصاته أنْ يتوكأ عليها ويهشَّ بها على غنمه، فلله تعالى مآربُ أخرى غير هذه المآرب الظاهرة.
لذلك رأينا بعض المستشرقين يقولون: إن القرآن كرَّر قصة عصا موسى هذه في أكثر من موضع، والواقع أن القصة لا تكرارَ فيها، بل هي مواقف مختلفة للعصا مع موسى، فالمرة الأولى كما قلنا كانت تدريباً لموسى حتى لا يُفاجأ بما تفعله العصا إذا ألقاها أمام فرعون.
وكانت المرة الثانية أمام فرعون، والثالثة لما جمع فرعونُ السَّحرةَ.
إذن: ليس في المسألة تكرار، إنما هي مواقفُ مختلفة لشيء واحد، والقرآن حينما عرض لنا هذه القصة علَّمنا الفرق بين السحر والمعجزة، السحر: تخييل وخداع للنظر إنما المعجزة حقيقة واقعة.
لذلك قال عن العصا:
{ { فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } [طه: 20] يعني: على وجه الحقيقة، ولما تكلَّم عن حبال السحرة قال: { { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } [طه: 66] والدليل على ذلك أن السَّحرة وأهل التمرُّس والخبرة في هذا المجال لما رأوا العصا ساعة انقلبت حيَّة خرُّوا سُجَّداً وآمنوا بموسى وبما جاء به، لأنهم أدْرى القوم بهذه المسألة { { قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ } [طه: 70].
والحق سبحانه في موضع آخر يقول:
{ { سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ } [الأعراف: 116] معنى: سحروا أعين الناس أن الأمر في السحر موقوف عند العين وعند النظر، فهو تخييل في مرأى العين فحسب.
وواقع حياتنا أيضاً يشهد بذلك، فأذكر أنني كنتُ رئيس بعثة الأزهر في الجزائر، وهناك تعرفتُ على سفير السعودية بالجزائر الشيخ رياض الخطيب بن فؤاد الخطيب الشاعر العظيم، وحدث بيني وبينه مودة، وصادف أنه نُقِلَ من الجزائر إلى باكستان، وبعدها سافرتُ أنا إلى باكستان ونزلتُ على الشيخ رياض.
وفي يوم تحدَّثنا عن السحر فقال: سأريك مسألة غريبة، هنا ساحر هندي يفعل كذا وكذا. فقلت: والله فرصة نرى ماذا يفعل، وفي الصباح ذهبنا إلى قرية وأتوْا بالساحر الهندي، فقعد وعمل (نصبة) وأتى بقطن جعله على هيئة حبل ولَواه هكذا، وكان معه ولد صغير، أشار إليه أنْ يصعد على هذا الحبل حتى رأى جميعُ الجالسين الولد فعلاً طالعاً على الحبل.
في اليوم التالي وبعد أنْ راجعتُ آيات السحر في كتاب الله أخذتُ معي كاميرا فوتوغرافيا وأحببتُ أنْ أُصوِّر هذا المشهد، وفعلاً صوَّرته، في اليوم التالي وجدت الصورة بعد تحميضها بيضاء ليس بها شيء أبداً.
فقال لي صاحبي: إذن بمَ تفسِّر هذا التخييل الذي رأيناه؟ قلت: والله من حديث القرآن عن الجن نعلم أنه يتشكل بكل الصور، ولا مانعَ أبداً أن الساحر يستعين بالجن، قال تعالى:
{ { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } [الجن: 6].
إذن: لا مانع عقلاً أنْ يُسخِّر الساحر من الجن مَنْ يساعده في هذه المسألة، ويتشكل له كما يريد.
والقرآن الكريم نصَّ على أن الآيات والمعجزات التي أُرسِلَ بها سيدنا موسى كانت تسع آيات:
{ { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ مَسْحُوراً } [الإسراء: 101].
وقال في موضع آخر:
{ { وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا .. } [الزخرف: 48] وهذا يعني أنها كانت آيات كثيرة واضحة ظاهرة بينة.
وقوله سبحانه { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ } [الزخرف: 46] الملأ: هم القوم، خاصة الوجهاء منهم، وأصحاب المنزلة من قولنا: فلان ملءَ العين. وفي آية أخرى قال:
{ { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } [العنكبوت: 39].
وقوله تعالى: { فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [الزخرف: 46] ملخص لرسالته وموجز لما جاء به.