خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ
٥١
-الزخرف

خواطر محمد متولي الشعراوي

هنا يشعر فرعون بالخطر، وتهتز مكانته أمام قومه، يشعر أن موسى يسحب البساط من تحت قدميه حيث تتجه إليه الأنظار خاصة بعد حادثة السحرة الذين آمنوا بربِّ هارون وموسى ولم ينتظروا إذناً من فرعون.
وبعد أنْ نزل بهم القحط، وأصابهم الجَدْب حتى يئسوا فتوجَّهوا إلى موسى وطلبوا منه كشْف ما هم فيه، لذلك نرى فرعون يحاول أنْ يعيد مكانته ويُحسِّن صورته أمام قومه.
{ وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } [الزخرف: 51] بماذا نادى مُناديه؟
{ قَالَ يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الزخرف: 51] يعني: انتبهوا إلى مكانتي ومُلْكي وقدرتي عليكم ولا تهتموا بأمر موسى، فأنا لا أزال مَلِك مصر، والأنهار تجري من تحتي. يعني: لا أزال وليَّ نعمتكم.
{ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } لكن نلاحظ في ندائه هذا أنه لم يقُلْ شيئاً عن ألوهيته. ولم يقُلْ: أنا ربكم الأعلى فقد تنازل عن هذه الشعارات التي لم يَعُدْ لها موضع بعد ما حدث مع موسى.
ثم تأمل صيغة النداء { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } [الزخرف: 50] بهذا الاستفهام التقريري، يعني: قُولوا لي ألم أزل ملكاً عليكم، ولم يأت مثلاً بأسلوب الخبر: أنا ملك مصر.
إذن: يتحدثُ فرعون الآن من موقف الضعف، نعم لأنه كان يقول
{ { فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات: 24] والآن يقول: { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } [الزخرف: 51].
كلمة { مُلْكُ } [الزخرف: 51] مادتها م ل ك، نلاحظ أن الميم تأتي مرة بالكسر، ومرة بالفتح، ومرة بالضم، فالميم المكسورة مِلك. يعني: كل ما تمتلكه ولو حتى اللباس الذي تلبسه يسمى مِلك.
ومُلْك بالضم تعني الإدارة والسيطرة على مَنْ له مِلك. يعني: يملك مَنْ يملك، ومَلك بالفتح يعني الإرادة والاختيار، كما في قوله تعالى:
{ { مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } [طه: 87] أي: بإرادتنا.
وفي اسم الفاعل نقول ملك ومالك، مالك تقال لكل منا يُسمَّى مالك، حتى لو كان يملك مجرد ملابسه. أما ملك فلا تُقال إلا لمَنْ يملك ويتحكم في المالك.
لكن حين نقرأ مثلاً في سورة الفاتحة:
{ { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 4] ولم يقُلْ مَلِك، صحيح هي في إحدى القراءات { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } لكن الأشهر (مَالِك)، فما الحكمة أنْ يعدل عن اللفظ الأقوى إلى الأقل منه؟
قالوا: اختار الحق سبحانه لفظ مالك ليقول أنه سبحانه مالكٌ ليوم القيامة، وغيره يملك الأرض وما عليها، فقوله { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 4] يعني: غيره لا يملك هذا اليوم، فهي لله وحده، لذلك قال:
{ { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16].
هكذا بالقصر عليه سبحانه دون غيره. إذن: لفظة مالك هي المطلوبة هنا، وهي التي تؤدي المعنى المراد، فهي الأدلُّ على المعنى وإنْ كانت أدْنى من ملك.
كما قلنا مثلاً في كلمة (كبير) و (أكبر)، أكبر: أفعل تفضيل من كبير فهي أقوى، ومع ذلك في نداء الصلاة نقول: الله أكبر وليس في أسماء الله أكبر، بل من أسمائه سبحانه الكبير، فلماذا عدل عن الكبير إلى أكبر؟
قالوا: قال الله أكبر لحكمة، هي أنَّ الأقلّ هنا له موضع، لأنك حين تدعو الناس إلى الصلاة تُخرجهم من عمل وسَعْي مشروع هو قوام حياة الناس ومعايشهم ومصالح الناس وأعمالهم ليس بالشيء التافه الذي لا قيمةَ له في دين الله، إنما هو من الأمور المطلوبة للشرع.
فهو إذن مهم وكبير، لكن إذا جاء وقت الصلاة فاعلم أن الله أكبر. يعني: أكبر من العمل ومن السَّعْي.
وهذه المسألة بيَّنها لنا الحق سبحانه في سورة الجمعة:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } [الجمعة: 9] ثم بعد انقضاء الصلاة قال: { { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } [الجمعة: 10].
إذن: أخذك للصلاة من العمل، ثم أعادك إليه مرة أخرى، لأن به يتم إعمار الأرض وقضاء مصالح الخَلْق. إذن: أكبر هي الأنسب في أداء المعنى المراد.
قوله: { وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } [الزخرف: 51] فرعون لم يُنادِ هو، إنما أمر مَنْ ينادي في القوم بهذا النداء، فلما كان النداء بأمره نسب إليه، وقوله { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } [الزخرف: 51] يعني: القطر كله لا العاصمة، كما نقول نحن اليوم (مصر) على القاهرة، فمصر التي ملكها فرعون كانت من الأسكندرية إلى أسوان.
ومصر عَلَم على هذه البقعة، وهي مُكوَّنة من ثلاثة أحرف. أولها: كسرة، ووسطها ساكن والسكون يعطي خفَّة في النطق، فهي اسم سهل في النطق، وجاء على أقلِّ صيغ تكوين الاسم في اللغة، لأن الاسم في العربية أقلُّه ثلاثة أحرف، وأكثره خمسة إذا كان مُجرداً من أحرف الزيادة.
والمتأمل يجد أن مكةَ وهي بلدُ الله الحرام ومحلُّ بيته المقدس ذُكرَتْ في كتابه الكريم مرتين:
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ } [الفتح: 24].
وجاءتْ بلفظ بكة في قوله تعالى:
{ { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } [آل عمران: 96].
أما مصر فذكرها الحق سبحانه في كتابه خمس مرات: { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ .. } [الزخرف: 51] وفي:
{ { وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ } [يوسف: 21] وفي { { ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } [يوسف: 99] وفي { { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } [يونس: 87] وفي { { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } [البقرة: 61].
وجاءت مصر في الآية الأخيرة هكذا بتنوين الفتح. وقال المفسرون: يعني أيَّ مصر من الأمصار يكون فيه ما تريدون، ولو اعتمدنا هذا التفسير فمصر في هذه الحالة داخلة فيه لأنها مصرٌ من الأمصار.
وقوله: { وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ } [الزخرف: 51] كلمة { مِن تَحْتِيۤ } [الزخرف: 51] تدل على التمكُّن والسيطرة، وبالفعل كانت قصوره على النهر مباشرة وكأن النهر يمرُّ من تحتها.
وَجَمَع الأنهار، مع أننا نعرف أن في مصر نهراً واحداً هو نهر النيل، وأنه يتفرع إلى فرعين دمياط ورشيد، فلماذا قال { وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ } [الزخرف: 51].
قالوا: كانت على أيام الفراعنة خمسة أنهار، أي: أنهم فرَّعوا من النهر خمسة فروع ليزيدوا من الشواطئ، وبهذا كان لديهم عشرة شواطئ تُبنى عليها قصورهم.
وأذكر في هذا المقام أنه كان لنا شيخٌ فاضل اسمه الشيخ عمر العمروسي من طنطا الجزيرة، وكنت أجلس إليه وأستفيد من علمه، ومعي الشيخ سيد شرف والدكتور ياسين عبد الغفار.
وفي يوم من الأيام سألني، وهو يعرف أنني في الأزهر فقال لي: يا شعراوي، ماذا فعلتُم في مسألة: { وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ } [الزخرف: 51].
قلتُ له: في قراءة التاريخ وجدنا أن مصر في أيام الفراعنة كان بها خمسة أنهار، نهر اسمه الملك لأن على شاطئه قصر الملك، ونهر اسمه دمياط، ونهر اسمه تنِّيس والعجيب أن منها نهراً يسمى طولون، ونحن نعرف أحمد بن طولون وكان في القرن التاسع الميلادي فكيف سُمِّي باسمه، وبعد البحث عرفنا أن ابن طولون هو الذي ردم هذا الفرع من النهر فسُمِّي باسمه.
والنهر الخامس كان يسمى الخليج. إذن: زادوا من تفريعات النهر الرئيسي لتزداد فُرَص البناء المطلّ على النهر، وهذا إنْ دَلَّ فإنما يدلُّ على ترف الحياة حين ذاك.
أما الشيخ عمر فكان له في تفسير الأنهار رأيٌ آخر، قال: اسمع يا ابني أنت وهو، الفراعنة جعلوا مصر على هيئة نموذج للجنة، فجعلوا بها أربعة أنهار. واقرأوا القرآن:
{ { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [محمد: 15].
لكن من أين عرف الفراعنةُ هذه الصورة عن الجنة فحاكوها على أرض مصر؟ قالوا: لأنهم كانوا يسيرون في أمور حياتهم وفي سياستهم خلف الكهنة، والكهنة كانوا على علم، وقرأوا الكتب السماوية السابقة.
حتى أنهم قالوا: إن العلوم التي عرفها الفراعنة وبنوا بها الأهرامات وأبا الهول والمعابد الموجودة الآن والتي لم نصل بعد تطور العلوم إلى أسرار بنائها، وعملية تحنيط الموتى وغيرها من الأسرار عرفوه من الكهنة.
وما دامت من الكهنة فمصدرها وَحْي السماء، بدليل أنه لما انتهى عصر الكهنة ولم يَعُدْ لهم وجود لم نجد لهذه العلوم أثراً حتى الآن.
وأذكر أنني في أثناء تولِّي المهندس حسب الله الكفراوي اقترحتًُ عليه إعادة حفر هذه الأنهار، بحيث تلتقي كلها عند القناطر الخيرية، ونزيد مساحة الشاطئ عندنا، واقترحتُ عليه لحلِّ أزمة البناء، وبدلاً من البناء على الأرض الزراعية أن نبني المساكن والمرافق الحكومية فوق فروع التُّرع والرياحات، لأنها تحتل مساحات واسعة.
ومعظمها عليه طرق من اليمين ومن الشمال، ويمكن أنْ نقيمَ أعمدة مسلَّحة على هذه الرياحات، ونبني فوقها كُلَّ مؤسسات الدولة بدل التكدُّس في العاصمة، فوعدني بدراسة هذه المقترحات لكن لم يُنفذ منها شيء.
المفسرون يقولون في { وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ } [الزخرف: 51] أن الأنهار كانت تجري من تحت قصوره بالفعل، قالوا: حتى أنه جعل من تحت سريره الذي ينام عليه مجرى مائياً كالنهر.