خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١٠
-الجاثية

خواطر محمد متولي الشعراوي

كلمة (وراء) في اللغة لها معانٍ متعددة، أوضحها في المعنى قوله { { فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ .. } [آل عمران: 187] يعني: خلف ظهورهم. وهذا هو المعنى المشهور لكلمة وراء؟
لكن تأتي بمعنى الشيء الذي سيأتيك في المستقبل كما في هذه الآية { مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ .. } [الجاثية: 10] فهي تنتظرهم في المستقبل.
وتأتي (وراء) بمعنى أمام كما في قوله تعالى في آية الكهف:
{ { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [الكهف: 79] فأحداث القصة تقول أن الملك كان ينتظرهم على الشاطئ ليستولي على كل سفينة صالحة فهو أمامهم لا وراءهم.
والوراء هو الشيء الذي يوجد دونه ما يُواريه، والذي يُواري العلم إما حجاب الزمان وإما حجاب المكان، فنحن مثلاً نجلس الآن في مكان واحد، ويرى كلٌّ منا الآخر لكنَّا لا نرى مَنْ هو خارج هذا المكان، فالذي يواريه عنا إذن حجاب المكان.
ولما أحدثك عن المستقبل تجد الزمن المستقبل أيضاً محجوباً عنك بحجاب الزمن المستقبل، كذلك في الزمن الماضي حجبه عنك حجاب الزمن الماضي.
وعِلْم الحق سبحانه يخرق كلَّ هذه الحجُب، والزمن عنده سواء الماضي أو الحاضر أو المستقبل، لذلك يأتي بالماضي، ويتحدث عنه كأنه حاضر، ويقول سبحانه مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم:
{ { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [آل عمران: 44].
لذلك يخرق حجاب الزمن المستقبل كما في قوله سبحانه في الصراع بين فارس والروم:
{ { الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ .. } [الروم: 1-4] لأن المسلمين حزنوا لانتصار فارس على الروم.
فالفرس كانوا مجوساً ليس لهم علاقة بالسماء، أما الروم فكانوا أهلَ كتاب، ويؤمنون بالرسل، فكان حَظُّ الإسلام أنْ ينتصر الرومُ فبشَّرهم الله بذلك الانتصار قبل أنْ يحدث ببضع سنين، والبضع في اللغة من ثلاث إلى تسع سنين.
فالحق يخبر نبيه بأحداث المستقبل في قرآن يُتلَى ويُتعبَّد به في كلِّ صلاة، فكيف يُعلن الرسولُ هذه البشارة ويسمعها الناسُ في فارس وفي الروم؟ إذن: يعلنها وهو واثق أنها حَقٌّ وصِدق، ولا بدَّ أنْ تتحقق.
هذا خَرْق لحجاب المستقبل، وفعلاً بعد بضع سنين انتصر الروم على فارس، وصادف ذلك انتصارَ المسلمين على الكافرين في بدر، فقال سبحانه:
{ { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ .. } [الروم: 4-5].
فقوله سبحانه: { مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ .. } [الجاثية: 10] يعني: تنتظرهم في المستقبل، فهي أمامهم وهذا من خَرْق حجاب الزمن المستقبل.
{ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً .. } [الجاثية: 10] يعني: لا يدفع عنهم شر ما هم فيه بسبب ما اكتسبوه في الماضي من عبادة الأصنام وتأليه لخَلْق الله، وهل يغني الصنم عن عابده وهو الذي صنعه؟ وهو الذي يقيمه إذا قلبه الهواء وأطاح به؟ كذلك مَنْ عبدوهم من البشر سوف يسبقونهم إلى جهنم. إذن: لا ناصرَ لهم ولا دافعَ عنهم.
واستخدم هذا الفعل المجرد (كسب) في الشر، ولم يقل اكتسبوا. وسبق أنْ بينَّا أنَّ كسب للخير واكتسب للشر، لأن الخير والطاعة تأتي طبيعية لا افتعال فيها، على عكس المعصية فهي تحتاج إلى افتعال واحتيال.
ولا تُستخدم (كسب) في الشر إلا إذا أصبح الشرُّ عادة وأخذ عند صاحبه حكم الكسب، فلم يَعُد يأنف منه وهَانَ عليه أنْ يقع فيه مرة بعد مرة حتى أصبح الشر عادته.
فقال: { مَّا كَسَبُواْ .. } [الجاثية: 10] أي: من الشر { وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [الجاثية: 10] أي: الآلهة التي عبدوها من دون الله، كذلك هي لا تُغني عنهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [الجاثية: 10] فالأمر لا ينتهي عند خذلانهم وعدم الدفاع عنهم، بل ولهم عذاب عظيم. يعني: شديد ومُبالغ في الإيلام.