خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لأيَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ
٣
-الجاثية

خواطر محمد متولي الشعراوي

قوله تعالى: { إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ .. } [الجاثية: 3] جعل السماوات والأرض ظرفاً فلا تنظر إلى السماوات والأرض في ذاتها، بل انظر لما فيهما من الآيات والأسرار، فهي مليئةٌ بالآيات التي يجلِّيها الله لوقتها، وكلما تفتحتْ العقول وتطوَّرتْ العلوم ظهر لنا آية من آيات الله في السماوات والأرض.
انظر مثلاً إلى الثورة في مجال الاتصالات، وما في الهواء من ذبذبات وبثٍّ (للتلفزيون)، ومع ذلك لا تختلط ولا تتداخل، انظر إلى الفضاء الواسع وما توصَّل إليه الإنسان من غزو الفضاء وإطلاق سفن وصواريخ تصل إلى كواكب أخرى وتستقرّ عليها وترسل لنا صُوراً منها، كلُّ هذه آياتٌ من آيات الله يُجلِّيها سبحانه لنا في وقتها المناسب.
إذن: آياتُ الله كثيرة في السماوات والأرض بل وتحت الأرض، لذلك يمتنُّ الله بنعمه علينا، فيقول:
{ { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ } [طه: 6].
لذلك سيدنا عبد الله بن مسعود يقول: أثيروا القرآن. يعني (هيجوه) مثل الأرض حينما نحرثها لنأخذ ما فيها من خيرات، كذلك كل شيء منسوب إلى الله تعالى فيه ما لا يُحصَى من كنوز الخير.
وإذا كانت السماواتُ والأرض ظرفاً فلنا أنْ نسأل: أيهما أثمن الظرف أم المظروف فيه؟ فالخطاب أو الرسالة أثمن أم الظرف الذي تُوضَع فيه؟ الخزينة أو ما يوضع فيها أنفس.
كذلك السماوات والأرض مع عظِمهما وقُوتهما، فما فيهما من آيات وعجائب أعظم منهما وأنفس، لذلك تذكرون أننا حرَّمنا أنْ نضع شيئاً بين أوراق المصحف، لماذا؟ حتى لا يكون كتاب الله تعالى ظرفاً لشيء، مهما كان غالياً وثميناً عندك، لأن القرآن أثمن وأغلى من أي شيء آخر، فلا تجعله ظرفاً لشيء.
وقوله: { لأيَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [الجاثية: 3] آيات جمع آية، وهي الشيء البالغ في الحُسْن مَبْلغاً كما نقول: فلان آيةٌ في الحسن أو في البلاغة، أو في الكرم، إذن: آية تعني الشيء العجيب في بابه.
وبيَّنا أن كلمة آية تُطلق على مَعانٍ ثلاثة: آيات كونية تثبت قدرة الخالق سبحانه وحكمته
{ { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ .. } [فصلت: 37].
فإنْ كان هذا الشيء مُتفرداً بشيء عجيب دالٍّ على القدرة سُمِّي آية وحده، ومن ذلك قوله تعالى:
{ { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ .. } [الإسراء: 12] فكلٌّ منهما آية وحده.
وقال في عيسى بن مريم عليه السلام وأمه مريم:
{ { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً .. } [المؤمنون: 50] فهما آية واحدة، لأن وجه العجب فيهما واحدة، والجامع بينهما في الإعجاز أمر واحد، فكانا آية واحدة.
ثم بعد ذلك آيات معجزات تأتي مصاحبة للرسل لتؤيدهم وتُثبت صدقهم في البلاغ عن الله مثل: عصا موسى، وناقة صالح.
ثم النوع الثالث من الآيات هي آيات الذكر الحكيم في القرآن الكريم، ويُسمُّونها حاملة الأحكام.
فمعنى: { لأيَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [الجاثية: 3] يعني: أيها المؤمنون بي تنبهوا لهذه الآيات لتُقنعوا بها غيركم ممَّنْ لم يؤمن من الكافرين والملاحدة، لذلك نقعد (ندادي) فيهم ونقول لهم: انظروا كذا وانظروا كذا، تأملوا قدرة الله في كذا وكذا.
هذه رسالتنا أنْ ندعو الناسَ، وأنْ ندلَّهم على الله بماذا؟ بآياته في الكون، لذلك ربنا سبحانه يُعلِّمنا كيف ندلُّ الناسَ بالآيات فيقول:
{ { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [فصلت: 37].
يعني: لا تغرنكم عظمة هذه الآيات؛ فخالقها أعظم، وأحلى من الحُسْن مَنْ خلق الحسن، فايَّاكم أنْ تنصرفوا بإعجابكم بالليل والنهار والشمس والقمر عن خالقها، فهو المستحق للعبادة وليس هي، وهذا يعني أن الخالق سبحانه حريصٌ على صَنْعته، حريصٌ على هداية الناس ونجاتهم مما يهلكهم.
فكأن هذه الآية تقول للمؤمنين بالله إنَّ هذه الآيات الكونية جعلها الله لتقنعكم أولاً، ثم تقنعون بها غيركم.
لذلك لو نظرنا إلى علماء الدين وعلماء الطبيعة في مجالات الإنسان والحيوان والنبات والجمادات وجدنا علماءَ الطبيعة أسبقَ لأن علماء الدين يُبيِّنون للناس الحلال والحرام، إنما ينطلقون أولاً من الإيمان بالله، فبيان الأحكام فرعُ الإيمان، فكأن النظر في الآيات الكونية والاستدلال بها على خالقها عز وجل أهمّ.
ومن عجائب صُنْع الله في خلقه أنهم في أواخر العشرينيات قالوا عن السماوات السبع أنها الكواكب السبع التي تدور حول الشمس، وفي العام الذي يليه اكتشفوا كوكباً آخر إلى أنْ وصل عددهم إلى عشرة، ثم اكتشفوا كوكب الزُّهرة، وهكذا تغيرتْ كلّ النظريات القديمة.
ومن عجائب الخَلْق في هذه الكواكب أننا نعرف أن اليوم أقلُّ في الزمن من السنة، لأن اليوم 1/365 من السنة، وبعد أنْ عرفنا علم الهندسة الفراغية وجدنا الزهرة وهو ثاني نجم بعد الشمس، وقبله عطارد.
ومن العجيب أنهم وجدوا أن يوم الزهرة أطولُ من عام الزهرة، فاليوم عندنا هو دورة الأرض حول نفسها، والسنة دورتها حول الشمس، فلما لاحظوا يوم الزهرة قياساً على يوم الأرض وجدوا أن اليوم أطولُ من السنة، فيوم الزهرة 244 من أيام الأرض، والسنة 225 من أيام الأرض.
وهذا صحيح لأن الجهة مُنفكَّة، فلكلِّ نجم حركته، وهذه الحركة قد تكون سريعة في دورانه حول نفسه، وبطيئة في دورانه حول الشمس أو العكس، ومن هنا يأتي الاختلاف ولا مانعَ أنْ يكونَ اليومُ أطولَ من السنة، وآخر هذه الكواكب بلوتو وجدوا أن يومه يساوي 6.5 يوم من أيام الأرض، وسنته 268 يوماً من أيام الأرض.
نفهم من هذا قدرة الخالق سبحانه، وأن هذا الكون خُلِقَ بدقّة وإحكام ليس مصادفةً، وليس مجرد نظام رتيب مثل القوالب الجامدة، إنما طلاقة قدرة وقيومية تحرك هذا الكون وتديره بكلِّ دقَّة وإحكام.
ثم لو نظر الإنسانُ في نفسه لوجد عالماً آخر مليئاً بالآيات، انظر إلى الناس واختلاف لغاتهم ولهجاتهم وتكوينهم وبصماتهم:
{ { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ } [الروم: 22].
ولو شاء سبحانه لَجعَلنا على لون واحد، ولسان واحد، لكن من حكمته تعالى في الخَلْق أنْ يجمعك بغيرك في شيء متفق، ثم يُميِّزك عنه بشيء آخر مختلف تماماً.
كنا نعرف في التمييز بين الناس بصمة الإصبع، الآن وجدوا بصمة للصوت، وبصمة للفكِّ، وبصمة للرائحة، كل هذه البصمات تميز الإنسان، بمعنى أنها لا تتكرر في شخص آخر على كثرة العدد، أليس هذا إعجازاً في الخَلْق يدعونا إلى الإيمان بالخالق جلَّ وعلا؟
قلنا: من عجائب الخَلْق في جسم الإنسان أنه لا يحدث فيه استطراقٌ حراريٌّ كما يحدث في باقي الأجسام، فحرارة الجسم العادية 37 ْ تجدها في الإنسان عند خَطِّ الاستواء وفي الإنسان في القطب المتجمد، لأن الجسم يحتفظ في داخله بهذه الدرجة، ثم تجد لكل عضو من أعضاء الجسم حرارته المناسبة له كي يؤدي مهمته.
فتتعجب حين تعلم أن العين لا تزيد حرارتها عن 9 ْ، في حين أن الكبد لا تقلّ حرارته عن 40 ْ، وهما في جسم واحد متصل، ومع ذلك لا يحدث فيه استطراقٌ حراريٌّ فتتعدَّى حرارة الكبد إلى حرارة العين مثلاً.
لذلك كما اهتمَّ الإسلام بتشريع الحلال والحرام وبيانه للناس اهتمَّ بدرجة أكبر ببيان آيات الله الكونية في كُلِّ أنواع المخلوقات إنسان وحيوان ونبات وجماد.
واقرأ إن شئت:
{ { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 27-28].
ها هنا حكم شرعي في الصلاة أو الحج أو الصيام؟ كلها دعوة للنظر وللتأمل في الكون، والعلماء هنا هم علماء الكونيات لا علماء الدين، فهم أعرفُ الناس بآيات الله، وهم أعرفُ الناس بالله وهم أكثرُ الناس لله خشية، لماذا؟
لأنهم وقفوا على آياته بأنفسهم، فهم أعرفُ الناس بها، لذلك لم يهمل الدين علماً من العلوم أبداً، لأن العلم يخدم قضية الإيمان وقضية التوحيد.
الحق سبحانه وتعالى يعطينا في القرآن كلَّ هذه الأمثال لنأخذ منها الدليل على وجوده تعالى، ونأخذ منها صفات القهر والحكمة والعزة والرحمة .. الخ بل نأخذ من الآيات الكونية ما تستقيم به حياتنا وما نُصحِّح به مفاهيمنا عن الأشياء.
فمثلاً خُذْ علاقة الرجل بالمرأة، البعض يرى أن الرجل ضد المرأة؛ وأنهما على طرفي نقيض، فنسمع أنصارَ المرأة ويقابلهم أنصار الرجل وكأنها معركة، في حين أننا نقرأ القرآن فنجد قوله تعالى
{ { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ * وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } [الليل: 1-4].
فالمخلوقات المتقابلة لا تعني أنها متضادة، وإياك أنْ تظنَّ أن الليل ضدُّ النهار، نعم هو يقابله في طبيعة الأشياء لكن لا يضاده، فالليل يساند النهار ويساعده، والنهار يساند الليل ويساعده فهما متكاملان، الليل للراحة والنهار للعمل، وكلاهما مُهم للآخر، وكلاهما له مهمة في الحياة ودَوْرٌ.
كذلك الحال في الذكر والأنثى. إذن: هذه الآية الكونية تُعلِّمنا درساً في حياتنا الاجتماعية، وأنه لا داعيَ لكلِّ هذه الضجة حول علاقة الرجل بالمرأة، وعودوا إلى القرآن ففيه الشفاء، وفيه حلول كل مشاكلنا.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ ... }.