خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٣٥
-الأحقاف

خواطر محمد متولي الشعراوي

الخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الحق سبحانه يُسلِّيه ويثبته ليتحمل الإيذاء من الكافرين، فليس هو بدعاً في ذلك، فقد سبقه كثير من إخوانه الرسل، فليصبر محمد كما صبروا.
تعرفون أن سيدنا رسول الله تعرَّض لكثير من أذى قومه، آذوه بالقول فقالوا: ساحر وشاعر ومجنون وكاهن وكذاب. ثم تعدّى الإيذاء إلى الإيذاء بالفعل، فاعتدوا عليه في الطائف حتى أدموا قدميْه، وكُسرت رباعيته في أُحد، ورموا على ظهره سلى البعير وهو يصلي.
آذوه في نفسه، وآذوه في أهله وفيمن آمن معه، بل تآمروا على قتله، وضيَّقوا عليه حتى اضطروه لترك مكة والهجرة إلى المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم يتحمل ذلك كله لكنه بشر ويشقّ عليه ذلك.
فأراد الحق سبحانه أنْ يضع أمامه أسوة ونموذجاً لمَنْ صبر من الرسل السابقين { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ .. } [الأحقاف: 35].
فسيدنا إبراهيم عليه السلام وصل الأمر به إلى أنْ أُلقِيَ في النار، ومع ذلك لم يُفقده الموقف ثقته بربه، بدليل أن جبريل عليه السلام لما عرض عليه أنْ يطفىء هذه النار قال له: أما إليك فلا فجاء الأمر من السماء
{ يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء: 69].
في صِغَره ابتُلي في نفسه، وفي كبره ابتُلي بذبح ولده الوحيد، وصبر على الابتلاء ففدى الله الذبيح إسماعيل، وزاده على ذلك بولد آخر هو سيدنا إسحاق ومن بعده سيدنا يعقوب، وكلهم كانوا أنبياء.
وجاء هذا العطاء نتيجة التسليم لله في قضائه وقدره والرضا به. ولنا في أبي الأنبياء أُسوة في الرضا بالقضاء، وأنْ نربي أجيالنا على ذلك، لأن التسليم والرضا بقضاء الله أول أسباب رفع القضاء، فلا يُرفع قضاء حتى يرضى صاحبه به، وإلا ظلَّ البلاء نازلاً به.
والذين يطول عليهم قضاء الله هم سبب ذلك، لأنهم في الواقع معترضون، ولو رضُوا لرفعه الله عنهم، مثل الأب الذي يضرب ولده على خطأ ارتكبه، فإنْ خضع وانصاع لوالده تركه، بل ويحنو عليه ويرضيه. فإن اعترض زاده ضرباً.
إذن: الله تعالى يريد أنْ يُربي عبده بالابتلاء، لذلك ورد في الحديث القدسي:
"مَنْ رضي بقدري أعطيته على قَدْري" .
كذلك من أولي العزم سيدنا نوح عليه السلام وظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل وكانوا يضربونه حتى يُغمى عليه.
انظر إلى الابتلاءات التي مر بها سيدنا يوسف، ففي صِغَره أُلقيَ في الجُبِّ، وبيع رقيقاً، وفي كبره ابتُليَ بامرأة العزيز وألقي في السجن، لكنه صبر فمكَّن الله له
{ وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ .. } [يوسف: 56].
وسبق أنْ بيَّنا أن الأقدار لا تخلو من حكمة، وأن الحدث لا ينفصل عن فاعله، فقبل أنْ تعترض انظر من الفاعل. والنبي صلى الله عليه وسلم حين يتأمل مواكب إخوانه من الرسل السابقين وما تعرضوا له يهون عليه إيذاء قومه، ويكون ذلك تسلية له.
وقوله تعالى: { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ .. } [الأحقاف: 35] يعني: لا تستعجل عذابهم، خاصة وأنهم كانوا يستعجلون العذاب جهلاً وعناداً منهم، لذلك خاطبه ربه بقوله:
{ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [غافر: 77] يعني: إنْ مُت يا محمد قبل أنْ ترى انتقام الله منهم فموعدهم الآخرة.
وقوله: { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ .. } [الأحاقف: 35] يعني: يوم القيامة { لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ .. } [الأحقاف: 35] يعني: تمر مرحلة البرزخ كأنها ساعة من نهار، فمنذ مات سيدنا آدم وإلى أنْ تقوم الساعة وهو لا يشعر بهذا الوقت، وما هو بالنسبة له إلا ساعة من نهار، لأن الوقت كما قلنا فرعُ الحدث، فإذا لم يوجد الحدث لا يوجد الوقت، كما عند النائم مثلاً.
وهذا رأيناه في قصة أهل الكهف، فقد ألقى اللهُ عليهم النوم فناموا
{ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً } [الكهف: 25] ومع ذلك لمَّا قاموا قالوا: { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ .. } [الكهف: 19] لماذا لانعدام الأحداث التي تشعر بالزمن، إذن: لا تستعجل لهم العذاب لأنها مجردُ ساعة مهما طال الزمنُ.
وتعرفون قصة العُزير
{ أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ .. } [البقرة: 259].
وقوله سبحانه: { بَلاَغٌ .. } [الأحقاف: 35] البلاغ: هو الوصول للغاية يقول تعالى:
{ هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ .. } [إبراهيم: 52] يعني: نهاية ما يمكن أن أعظكم به.
وما دام قال سبحانه (هذا) إذن: لا بد أن يحدث ولا يمنعه شيء لأنه إله واحد لا شريك له ولا معارض { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [الأحقاف: 35].
الفسق: الخروج عن الطاعة، وهو سبب الهلاك في الآخرة أو حتى في الدنيا.