خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ
١
-محمد

خواطر محمد متولي الشعراوي

تأمل هنا ما أحسن التقاء وتناسب نهاية السورة مع بداية الأخرى، ففي نهاية الأحقاف: { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [الأحقاف: 35] وهنا { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ } [محمد: 1] فكأن الفاسقين هم الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله.
عرَّفنا الكفر أنه الستر سَتْر الحقيقة، أو ستر آثار الحقيقة، فكلمة (كفر) تقتضي بمدلولها وجود مستور، والكفر ماذا يستر؟ يستر نقيضه وهو الإيمان، إذن: وُجد الإيمان أولاً، ثم جاء الكفر ليَستره.
فكلمة الكفر أول دليل من أدلة الإيمان، لأن الإيمان أمر فطريّ، وغريزة في النفس البشرية وهي ما تزال في عالم الذر لما أخذ الله عليها العهد
{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ .. } [الأعراف: 172].
وقد لا يستر الكفر الشيء، إنما يستر آثاره، كما في قوله تعالى:
{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ .. } [النحل: 112].
إذن: كفرت بالله شيء، وكفرت بأنعم الله شيء آخر.
والكفر بالنعمة يكون من عدة وجوه، فمن كُفر النعمة الغفلة عنها وعدم البحث عن أسبابها، وعدم استنباطها في الكون بما فيه من أسباب: الماء والهواء والأرض.
اقرأ مثلاً:
{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا .. } [فصلت: 9-10].
إذن: ربنا أعطانا الأسباب وأمرنا بالبحث فيها واستنباطها، وعدم التكاسل عن استخراج ما في الطبيعة من خيرات، فبعد أنْ أعطاك الله أسباب النعمة فلا تتهاون في شأنها وتعيش شحاذاً عالة على غيرك.
وقد يبحث الإنسان عن النعمة ويستنبطها لكن يسترها عن مستحقيها ويكنزها عنهم، وهؤلاء قال الله فيهم:
{ { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } [التوبة: 34-35].
إذن: الكفر إما كفر بالله بإنكار وجوده سبحانه، أو كفر بنعمه والآئه.
وقوله تعالى { وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ .. } [محمد: 1] يعني: منعوا الناس أنْ يؤمنوا بالله، أو منعوا آذانهم أنْ تسمع إنذار الدعوة إلى الله، وصدُّوا أبصارهم ومنعوها أنْ ترى آيات الله في الكون وأنْ تتخذ منها دليلاً على الخالق سبحانه، وصدُّوا قلوبهم عن الإيمان بالله وقبول اليقين.
فهذه كلها مفعولات لصدُّوا، إذن: هؤلاء كفروا ولم يقتنعوا بكفر أنفسهم، بل حاولوا أنْ يجرُّوا غيرهم إلى ساحتهم.
لذلك وقف المستشرقون عند هذه المسألة يقولون: أنتم تقولون آيات محكمة، ثم بعد ذلك نجد فيها شبهة التناقض، مثل قوله تعالى:
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ .. } [الزمر: 7].
ويقول في موضع آخر:
{ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ .. } [النحل: 25] الواقع أنه لا تناقضَ بين الآيتين، لأن الحدث مختلف، لأنهم لما ضلوا في أنفسهم حملوا أوزارهم، ولما أضلوا غيرهم حملوا وزر ضلالهم، ووزر إضلالهم للغير.
ومعنى: { أَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ } [محمد: 1] أبطلها وجعلها غير ذات فائدة، لأن معنى الضلال عدم الاهتداء إلى الطريق الموصّل للغاية وهؤلاء عملوا أعمالاً لا تعود عليهم بالنفع، وما النفع في الكفر وصدّ الناس عن الإيمان؟
حتى الذين يفعلون الخير وهم خارج ساحة الإيمان لا يُقبل منهم ولا يشفع لهم هذا الخير في الآخرة، لأنهم ما فعلوه من منطلق الإيمان، إنما فعلوه من منطلق الشهرة والسمعة والحضارة وخدمة البشرية إلى آخر هذه الشعارات.
لذلك يقول تعالى:
{ وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [الفرقان: 23].
ويقول:
{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [النور: 39] فهؤلاء هم الذين يُقال لهم يوم القيامة: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا .. } [الأحقاف: 20].
وفى المقابل يقول سبحانه:
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ... }.