خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ
١٦
-محمد

خواطر محمد متولي الشعراوي

قوله تعالى: { وَمِنْهُمْ .. } [محمد: 16] ممَّنْ؟ ستعرف بعد أن تقرأ أوصافهم { مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ .. } [محمد: 16] يستمع إلى رسول الله وهو يقرأ القرآن { حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ .. } [محمد: 16] يا محمد { قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ .. } [محمد: 16] أمثال ابن مسعود وابن عباس { مَاذَا قَالَ آنِفاً .. } [محمد: 16] يعني: ما الجديد فيما قاله محمد، كأنهم يحتقرون ما سمعوه من رسول الله.
هذه إذن ليست صفات الكافرين، لأن الكافرين لم يكونوا يستمعون للقرآن، إنما هي صفات المنافقين الذين كانوا يشاركون المسلمين صلاتهم ومجالسهم ويذوبون فيهم بخبث ودهاء، لكن كان القرآن ينزل على رسول الله فيكشفهم.
لذلك كان النفاق أسوأ وأضرَّ على المسلمين من الكفر، فالكافر معلوم أنه عدو ظاهر العداوة، ويمكن أنْ تحتاط له، أمَّا المنافق فواحد من الجماعة المسلمة يعلن الإسلام ويبطن الكفر، فعداوته غير ظاهرة وخطرة أعظم.
والذي يتتبع تاريخ النفاق في الإسلام يجده لم يظهر في مكة إنما ظهر في المدينة، فرغم العداء الشديد بين الإسلام والكفار في مكة إلا أنه كان عداءً ظاهراً مُعلناً يمكن مواجهته، فلم يوجد فيها نفاق، لم يظهر إلا في المدينة، لماذا؟
لأن النفاق لا يكون إلا مع القوي، فالضعيف لا يُنافق الضعيف، تعلن العداء في وجهه، أما القوي فتنافقه لتتغلب عليه.
إذن ما الداعي للنفاق في مكة والمسلمون فيها قلَّة مستضعفة، هذا يعني أن النفاق ظاهرة تدل على قوة الإيمان، وأنه أصبح له شوكة تُنَافَق، وهذا حدث في المدينة.
لذلك قال سبحانه وتعالى في حقهم:
{ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ .. } [التوبة: 101].
كلمة { يَسْتَمِعُ .. } [محمد: 16] وردتْ هذه المادة في القرآن بلفظ: سمع واستمع وتسمَّع، سمع أي: دون إرادة منه للسماع، واستمع لمن يحب أنْ يسمع شيئاً محبوباً لديه، أما تسمع ففيها تفعُّل وتكلُّف للسماع ومحاولة.
إذن: قال: { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ .. } [محمد: 16] يعني: برغبته وارادته وهو محب لأنْ يسمع، وهكذا كان حال المنافقين يجلسون في الصفوف الأولى ويُبدون من الاهتمام ما لا يُبديه غيرهم، فلا تفوتهم كلمة ولا تفوتهم صلاة ليحبكوا خطتهم ويُخْفوا نفاقهم.
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ .. } [محمد: 16] لأنهم سمعوا الكلام ولم يؤمنوا به ولم يعملوا بمقتضاه، فكان الجزاء أنْ ختم الله على قلوبهم وطبع عليها، وكأن الله يقول لهم: ما دُمتم أحببتم النفاق فسوف أزيدكم منه وأختم على قلوبكم حتى لا يخرج منها النفاق ولا يدخلها الإيمان.
{ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } [محمد: 16] الهوى أنْ يميل قلبك إلى شيء تعتقد أنه سارّ ومُفرح لك، فرح عاجل ولذة وقتية دون النظر في العواقب بعد هذه اللذة.
إذن: اجعل لهواك ضوابط، واختر الهوى الأبقى أثراً والأدوم نفعاً، اجعلْ هواك فيما ينفعك لا فيما يضرك، كالذي يأكل (شطة) مثلاً، لأنها تجعل للأكل لذة وطعماً هو يرغب فيه الآن حين يأكل، لكنه غفل عن مسألة إخراج هذا الطعام، وأنه سيجُر عليه ألماً يفوق لذة الأكل.
إذن: على العاقل أنْ يتدبر عواقب هواه، ويحذر أنْ يميل به الهوى، لذلك يقول تعالى:
{ وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ .. } [المؤمنون: 71].
والحق سبحانه أتى لنا بالمنهج ليحمينا من الهوى، لأن أهواء النفوس متضاربة ومتعارضة، فهي أداة اختلاف وتنافر، والله يريد لنا أن نتفق، وأنْ نتساند لا أنْ نتعاند.
وفي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم:
"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به" .
البعض يقف عند قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ .. } [محمد: 16] فيقول ما دام أن الله طبع على قلوبهم وأراد لهم الضلال، فلماذا يعذبهم؟ نقول: الله يهدي العباد لا يضلهم، وهم الذين يختارون الضلال ولا يهتدون بالإيمان.
لذلك نقرأ:
{ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [البقرة: 264] و { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } [المائدة: 108] و { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [البقرة: 258].
فالضلال إذن وعدم الهداية ناشىء عنهم هم ونتيجة مسلكهم غير المستقيم، فالله لم يهدهم لأنهم إما كافرون أو فاسقون أو ظالمون.
وإلا فالحق سبحانه في واقع الأمر هدى الجميع، المؤمن والكافر، لأنه نادى الجميع في قوله سبحانه:
{ يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } [البقرة: 21] فدلَّ الجميع وأرشدهم إلى منهجه وعاقبة السَّيْر على هذا المنهج، وأنذرهم عاقبة الخروج عنه.
وبيَّن لهم أن المنهج ما وُضع إلا لمصلحتهم باستقامة أمورهم في الدنيا وسلامتهم في الآخرة، وأنه سبحانه لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، فهو سبحانه غني عنهم مُستغن عن عبادتهم، لأن له صفات الكمال قبل أنْ يخلقهم، يقول لعبده: يا عبدي أقبل عليَّ أعْطِكَ خيري.
واقرأ قوله تعالى في قوم ثمود:
{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ .. } [فصلت: 17] يعني: دللناهم وأرشدناهم إلى طريق الخير { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ .. } [فصلت: 17] فلما استحبُّوا العمى أعماهم الله.
ثم إن الذين يقولون: لماذا يعذبهم الله وهو أضلهم؟ لماذا لا يذكرون المقابل فيقولون: ما دام كتب عليهم الطاعة، فلماذا يثيبهم عليها؟.
لذلك ورد في الحديث القدسي:
"قالت السماء: يا رب إئذن لي أنْ أسقط كسفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الأرض: يا رب إئذن لي أنْ أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الجبال: يا رب إئذن لي أنْ أسقط على أبن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، فقال الله لهم: دعوني وخلقي لو خلقتموهم لرحمتموهم، فإنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم، وأبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب" .
وسبق أنْ مثَّلنا مسألة الهداية - ولله المثل الأعلى - برجل المرور حين تذهب إليه فتسأله عن الطريق، فيقول لك: الطريق من هنا، فإنْ أطعته زادك وقال لك: إن في الطريق عقبة في المكان الفلاني فانتبه لها، أو يأخذك بنفسه حتى تبلغ ما تريد.
وهكذا الحق سبحانه دلَّ الجميع وأرشد الجميع، فمنْ سمع وأطاع زاده هداية، ومَنْ أعرض وتمرد زاده ضلالاً بأنْ ختم على قلبه.
لذلك قسَّم العلماء الهداية إلى نوعين: هداية الدلالة وهي للمؤمن وللكافر، وهداية التوفيق والمعونة، وهي خاصة بالمؤمن، لذلك قال في الآية بعدها:
{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ... }.