خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ
٨٧
-المائدة

خواطر محمد متولي الشعراوي

إذن فأمر التحريم موكول إلى خالق الآله الإنسانية، وأمر التحليل موكول إلى خالق الآله الإنسانية. وأنت أيها الإنسان لا تتدخل في ذلك أبداً. لأن تدخل الإنسان يكون أحياناً بتحريم ما أحل الله، وأحياناً يكون تدخل الإنسان بتحليل ما حرم الله.
إياك أيها الإنسان أن تحرم ما أحل الله لك، وإياك أن تحلل ما حرم الله عليك. ونحن هنا أمام مراحل عدة، لا تعتقد أن هناك أمراً حلله الله هو حرام، ولا تقل إن هناك أمراً حلله الله هو حرام، ولا تمتنع عن أمر حلله الله ظناً أنه حرام، ولا تُفْتِ بأمر حلله الله على أنه حرام، ولا تجعل أمراً حلله الله فتحرمه على نفسك، فلا ينذر أحد ألا يأكل لحم الضأن أو البرتقال - على سبيل المثال - لأن النذر في ذلك ليس حلالاً، لأن تحريم الأشياء المحللة بالنذر هو أمر محرم. ولذلك علمنا الحق قائلاً لرسوله:
{ { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } [التحريم: 1].
لا بد لنا أن نعي ذلك الأمر وأن نعرف مراحله: لا تعتقد، لا تقل، لا تمتنع، لا تُفْتِ، لا تنذر، لماذا؟ لأن في ذلك اعتداء.
يقول الحق تبارك وتعالى:
{ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } [المائدة: 87].
وما الاعتداء؟ إنه تجاوز الحد فيما حرم الله أو فيما حلل الله. أي أن الله يحب من يقف عند الحدود. وهو سبحانه يقول مرة:
{ { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [البقرة: 187].
ومرة يقول:
{ { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [البقرة: 229].
فهي المنهيات: لا تقترب. وفي ما أحله الله: لا تتعدَّ؛ لذلك جاء القول على لسان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:
"الحلال بين والحرام بين وبينهما مُشْتَبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المُشْتَبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في المشتبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه؛ ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" .
إذن فكل كائن له مميزات وله مهمة في الوجود. وأنت أيها الإنسان لا تقلب الوسيلة إلى غاية، فهناك كثير من المخلوقات هي وسائل ولا تصلح أن تكون غايات؛ ولذلك أمرنا الحق بأن نأخذ ما ننتفع به مباشرة وأن نترك الأشياء التي حرمها علينا؛ فلا نقرب - على سبيل المثال - لحم الخنزير؛ لأن الخنزير مخلوق ليخلصك من الميكروبات، فإن أكلته تكون قد قلبت الوسيلة إلى غاية. وعليك أيها الإنسان أن تحتفظ بالوسيلة كوسيلة وأن تحتفظ بالغاية كغاية. والذي يحدد لك ذلك هو من صنعك . . إنه الله.
ودليل ذلك أن خصوم الإسلام يكتشفون كل يوم المميزات التي جاء بها الإسلام فيتجهون إليها. إن الله بتحريمه وبإيماننا بهذا التحريم منعنا من متاعب التجربة إلى أن تثبت، والكفار الذين لم يأمنوا اضطرتهم الظروف إلى تناوله، وعلى ذلك فكل شيء محلل أو محرم بأوامر الله يظهر لنا فائدته أو ضرره طبقاً لقول الحق سبحانه وتعالى:
{ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت: 53].
إذن فلا اعتقاد في شيء حلال أنه حرام ولا قول بمثل ذلك ولا امتناع عنه ولا يفتي إنسان بمثل ذلك. ويأتي الأمر: { وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ }. ونعرف أن الاعتداء إنما هو أن نتجاوز الحد فيما حرم أو فيما حلل، والحق سبحانه يحب من يقف عند حدود الله. فلا يقربها الإنسان حتى لا تحدثه نفسه بمعصية. وعندما يبتعد المسلم عنها فهو يتقي الشبهات.
والحق يبين لنا قد أحللت لكم كذا وحرمت عليكم كذا وهو الخالق. فيجب أن نأخذ من الخالق مواصفات ما يبقي لنا الحياة؛ هذا الإبقاء هو ما نصنعه نحن حينما نخترع آلة توفر علينا الحركة وتعطينا الثمرة بأقل مجهود، فحين يصنع الصانع آلة من الآلات يصنع لها ما يوجد لها الطاقة لتقوم بعملها، ولا يستطيع المستعمل لهذه الآلة أن يغير وقود هذه الطاقة، فإن غير نوع الطاقة، فالآلة لا تؤدي مهمتها. فما بالنا بالذي خلق؟
إنه حين يوضح أنّ هذه الآلة لا تصلح إلا بما أحللت، ولا يصح أن تدخل عليها ما حرمت عليك. هنا يجب أن نطيع الخالق؛ لأنه هو الذي يعلم ما يصلح لنا وما لا يصلح. ولم يدع أحد في الكون أنه خلق نفسه، فلنرد اقتياتنا وحفظ حياتنا إلى خالقنا، ولنأخذ ما حلله ونبعد عما حرمه، فالآلة - الإنسان - تصلح بأن تفعل الحلال وأن تترك فعل الحرام. إذن هناك أشياء تُفعل، وهناك أشياء لا تُفعل. وهناك أشياء لم يأت فيها الحل أو الحرمة، فإن أقبل عليها الإنسان فهي تصلح، وإن لم يقبل عليها الإنسان فهي تصلح أيضاً. والحق سبحانه وتعالى يوضح: أنكم لم تخلقوا هذه الآلة - الإنسان - وأنا الذي خلقتها، فإنا أعلم بما يعطيها مدد الطاقة ومدد البقاء، فإن صنعتم غير ذلك كنتم معتدين.
ولذلك يخاطب الحق الذين آمنوا بأنه خلقهم من عدم وأمدهم من عدم ورزقهم لاستبقاء حياتهم ونوعهم، وعليهم أن يأخذوا من الله هذه الأحكام: { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ }. وسبحانه يوضح: إن الذي يؤمن بأني إله فليأخذ مني مواصفات استبقاء حياته. وعندما يقول سبحانه ذلك فلا بد أن يكون هناك سبب داعٍ لهذا القول ولما نزل قوله - سبحانه -:
{ { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } [المائدة: 82].
الحق جاء في هذا القول الكريم بحيثيات مدحهم وحيثيات قربهم من مودتنا، فمنهم القسيسون والرهبان الذين زهدوا في الحياة. ولما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بكوا واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، وفيهم أبو بكر الصديق وعمر وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك أي الدسم. ويجبوا المذاكير ويسيحوا في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم فحمد الله وأثنى عليه فقال:
"ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" .
وأنزل الحق سبحانه وتعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ } [المائدة: 87].
وكلمات الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته وللناس منطقية، فإذا كانوا يريدون أن يمتنعوا عن طيبات ما أحل الله حتى يعلنوا الزهد مثل السابقين عليهم، ومن يريد الرهبنة أَلا يصلي؟ إنه يقيم الصلاة؛ والصلاة لا بد لها من حركة، والحركة لا بد لها من قوة، والصلاة لا بد لها من ستر العورة، وستر العورة يقتضي اللباس، وهذا اللباس يحتاج إلى تفكير من أين يأتي هذا. القماش يأتي من تاجر أقمشة، وتاجر الأقمشة لا بد أنه يأتي به من المصانع التي تنسجه، والمصانع التي تنسجه لا بد أن تأتي من المصانع التي غزلته، والمصانع التي غزلته لا بد أن تأتي به من المحالج التي حلجت، ثم لا بد من الحيوانات التي أخذ منها إن كان صوفاً، وأن تُربى وتربيتها تحتاج إلى زراعة. إذن فكل هذه الأشياء تتطلب حركة واسعة، أنت لا تشعر بها إلا حين تحتاج إلى الثوب. فإن كنت تريد أن تنقطع للعبادة فإياك أن تنتفع بحركة من يقيم أركان الإسلام، ويتحرك في الحياة في ضوء منهج الله ساعياً إلى الرزق، وهذا أمر لا يتأتى.
وأيضاً، ألا يأكل الذي يريد الانقطاع إلى العبادة؟ إنه يأكل ليقوم إلى الصلاة. وكلنا يعرف كيف يجيء رغيف الخبز. صحيح أن الإنسان يذهب إلى المخبز ليشتري رغيف الخبز، والمخبز جاء بالدقيق من المطحن. والمطحن جاءته الغلال من المخازن، والغلال جاءت من الذي زرع. والذي زرع احتاج إلى الآت تحرث وآلات تغرس وإلى آلات تجنى، وبعد ذلك احتاج إلى أشياء أخرى كالسماد وغيره، إن هذا يحتاج إلى طاقة هائلة.
إذن فالإنسان في حركته في الصلاة محتاج إلى كل هذه الأعمال، فإياك أن أردت أن تعتزل الحياة أن تنتفع بعمل من لم يعتزل الحياة. والعمل الذي لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولذلك يكون على ولي الأمر إن رأى حرفة يتطلبها الوجود الإنساني والوجود الإيماني ولم يذهب إليها أناس طوع أنفسهم عليه أن يلزم قوماً بأن يفعلوها. وكل صناعة هي فرض كفاية إن قام بها البعض سقطت عن الباقين. وإن لم يقم بها البعض أثم الجميع.
إذن فلا بد من حركة الحياة. وحركة الحياة تُسْلم حلقة إلى حلقة أخرى. فلا تأخذ الثمرة وأنت مع ذلك تعتزل الحياة. والحق سبحانه وتعالى يقول: { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ }. إنكم إن فعلتم ذلك تكونوا قد أخذتم صفة المشرع واعتديتم على حقه في أن يحلل وأن يحرم، وهذا اعتداء.
وإذا كان الله قد حرم أشياء وحلل أشياء فهذا بمقتضى صلاحية الأشياء المحللة للإنسان. وعلى الإنسان أن ينظر إلى الأشياء الموجودة المحرمة على أنها رزق غير مباشر لأنها وسيلة إلى رزق مباشر، كما عرفنا أننا نستخلص من سم الثعبان علاجاً، إذن فالثعبان مخلوق لمهمة تخدم الإنسان. والعالم كله حلقات، حيوانات تستفيد من أذى بعضها إلى أن يصل الخير كله إلى المؤمن، فلا يقولن إنسان "لماذا خلق إذا كان قد حرم".
فلا تعتد لتحلل ما حرمه الله وتحرم ما حلله الله، فبترك الاعتداء ينتظم الوجود، وحين ينظر الإنسان إلى الغابة يجد أن لكل حيوان مهمة مع غيره، هذه المهمة تؤدي إلى الصلاح فيما يصلح للإنسان. لقد حرم الحق بعض الأشياء كرزق مباشر؛ لأنها رزق غير مباشر. والرزق المباشر هو ما يأكله الإنسان مباشرة وما يلبسه، والرزق غير المباشر هو وسيلة إلى الرزق المباشر، وما حرمه الله هي أشياء مخلوقة كوسائل إلى صحة غيرها.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ } أي لا تجعلوا الحرام حلالاً، ولا تجعلوا الحلال حراماً، و "لا تعتدوا" أي كلوا من الطبيات دون أن تتجاوزوا الحد، وهذا هو معنى قوله الحق:
{ { وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ } [الأعراف: 31].
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ... }.