خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٢٩
-الأنعام

خواطر محمد متولي الشعراوي

"وكذلك" تشير إلى ما حدث من الجن والإنس من الجدل، فقال الحق على ألسنة الإنس: { { رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ .. } [الأنعام: 128].
ولم يأت بكلام الجن؛ لأن كلامهم جاء في آيات أخرى؛ فالحق هو القائل:
{ { وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ .. } [إبراهيم: 22].
وكذلك أورد الله ما يجيء عل لسان الشيطان في سورة أخرى:
{ { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ .. } [الحشر: 16].
وكذلك جاء الحق في آيات أخرى بأقوال الإنس الذين ضلوا:
{ { رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ } [فصلت: 29].
وقوله الحق هنا في سورة الأنعام:
{ وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضا .. } [الأنعام: 129].
أي كما صنعنا مع الجن والإِنس، باستكثار الجن من الإِنس واستمتاع بعضهم ببعض إضلالاً وإغواء، وطاعة وانقياداً، نجعل من بينهم ولاية ظالم على ظالم، ولا نولى عليهم واحداً من أهل الخير؛ لأن أهل الخير قلوبهم مملوءة بالرحمة، لا يقوون على أن يؤدبوا الظالم؛ فهم قد ورثوا النبوة المحمدية في قوله يوم فتح مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، ولذلك إذا أراد الله أن يؤدب ظالماً لا يأتي له بواحد من أهل الخير ليؤدبه، إنه - سبحانه - بتكريمه لأهل الخير لم يجعل منهم من يكون في مقام من يؤدب الظالم. إنه - سبحانه - يجعل أهل الخير في موقف المتفرج على تأديب الظالمين بعضهم بعضاً.
والتاريخ أرانا ذلك. فقد صنع الظالمون بعضهم في بعض الكثير، بينما لو تمكن منهم أعداؤهم الحقيقيون لرحموهم؛ لأن قلوبهم مملوءة بالرحمة.
ولذلك بلغنا عن سيدنا مالك بن دينار وهو من أهل الخير. يقول: قرأت في بعض الآثار حديثاً قدسيا يقول فيه الحق:
"أنا ملك الملوك قلوب الملوك بيدي"
فإياكم أن يظن الطاغية أو الحاكم أو المستبد أنه أخذ الحكم بذكائه أو بقوته، بل جاء به الحق ليؤدب به الظلمة، بدليل أنه ساعة يريد الله أن تنتهي هذه المسألة فهو بجلاله ينزع المهابة من قلوب حرّاسه وبدلاً من أن يدفع عنه البندقية، يصوّب البندقية إليه.
فإياكم أن تظنوا أن ملكاً يأخذ الملك قهراً عن الله، ولكن إذا العباد ظلموا وطغوا يسلط الحق عليهم من يظلمهم، ولذلك يقال: "الظالم سيف الله في الأرض ينتقم به وينتقم منه".
{ وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [الأنعام: 129].
فكأن ما سلّط على الناس من شرّ عاتٍ هو نتيجة لأعمالهم؛ ولذلك كان أحد الصالحين يقول: أنا أعرف منزلتي من ربي من خُلُق دابتي؛ إن جمحت بي أقول ماذا صَنَعْتُ حتى جمحت بي الدابة؟! وكأن المسألة محسوبة. وهذه معاملة للأخيار، عندما يرتكب ذنباً يؤاخذ به على الفور حتى تصير صفحته نظيفة دائماً. قال عليه الصلاة والسلام:
"ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كَفّر الله بها عنه، حتى الشوكة يُشاكها."
فإذا فعل العبد من أهل الخير بعضاً من السيئات، يوفّيه الحق جزاءه من مرض في جسمه أو خسارة في ماله، كذلك المسيء الذي لا يريد له الله النكال في الآخرة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا حط الله تعالى به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها."
{ وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } هم اعتقدوا أنهم أخذوا شيئاً من وراء الله وخلصوا به. نقول: لا، فربك سيحاسبك ثواباً أو عقاباً وذلك بما قدمت يداك من سيئات أو حسنات.
ويقول الحق بعد ذلك:
{ يَامَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ ... }.