خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١٣
-الأنعام

خواطر محمد متولي الشعراوي

إن من عظمة الموجود الأعلى الواجب الوجود أنه يتكلم عن نفسه بضمير الغيب وهو سبحانه القائل في أول بعض الآيات: { { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1].
و"قل" هي أمر، فكأن الحق حين يقول: "هو" فلا يمكن أن تطلق "هو" إلا على الله ولا تنصرف إلا لله. { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } وكلمة "سكن" هي من مادة السين والكاف والنون، وتأتي لمعان متعددة؛ فتكون من السكنى أي الاستيطان، وتكون من السكون الذي هو ضد الحركة. والمثال على الاستيطان هو قول الله لآدم:
{ { ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } [البقرة: 35].
إن الحق سبحانه يقول هنا: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } فكأن الليل والنهار ظرف، وكل الوجود مظروف فيه. وظرفية الليل والنهار تأتي على ظرفية المكان وهو الأرض. وكل مكان في الأرض يأتي عليه الليل والنهار. فإن أردنا الاستيطان في السكن فهي موجودة، وإن أردناها من السكون - وهو ضد الحركة - فهي موجودة؛ ذلك أن كل متحرك يؤول إلى ساكن، والإنسان سيد الحركة ثم يموت أو يسكن في الأرض. وهكذا نرى أن الجنس الأعم الذي يشملهما معًا هو { مَا سَكَنَ } ولذلك قال الحق: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [الأنعام: 13].
وحينما يقول: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ }، فهو يتكلم عن الزمان، واحتوائية الزمان للزمانيات، أي للأشياء التي تحدث في هذا الزمان. والإنسان كما نعلم حدث. وكل ما يطرأ عنه حدث، وكل ما في الكون حدث، وقد أحدثه الحق الواجب الوجود.
وما دام الحدث قد وُجد فلا بد له من زمان ولا بد له من مكان. أما مكان الحدث فهو السماء والأرض، وما بينهما. وأما زمان الحدث فهو الليل والنهار.
إذن فالحق قد تكلم عن خلق الزمان من بعد أن أعلن لنا أنه خالق المكان.
{ { قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ } [الأنعام: 12].
وهكذا نعلم أن الزمان والمكان قد وُجِدا عندما شاء الله أن يحدث هذا الكون. ولا تقل أبداً أيها الإنسان: أين كان الله قبل أن يخلق الكون؟ لأن "أين" هي بحث عن مكان، و"متى" هي بحث عن زمان. و"أين" و "متى" إنما وجدتا بعد وجود الحدث في الكون. والكون هو ظرف قار أي شيء ثابت. والزمان هو ظرف غير قار، لأنه يكون مرة ماضياً، ومرة يكون حاضراً أو مستقبلاً.
والحق سبحانه عندما قال: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } أي أن له الظرفين: القار وغير القار. . أي له - سبحانه - الساكن وكذلك له ما يتحرك في الكون؛ لأن كل متحرك يؤول أمره إلى سكون. أو أن قوله الحق: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } أي ما حل في الليل والنهار، أي له سبحانه ما حل في الليل والنهار متحركاً كان أو ساكناً.
والحق يذيل هذه الآية بقوله: { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } فالسمع متعلق بالمسموع أي الذي له حركة، والعلم متعلق بالمسموع والمنظور والمشموم وكل شيء من آلات الإدراك؛ لذا جاء قوله - سبحانه -: { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } ليشمل المتحرك والساكن، فسبحانه لا يعزب ولا يغيب عنه شيء.
ونعلم أنه إذا أخبر الحق عن نفسه بصفة من صفات يوجد مثلها في البشر فنحن نأخذها في إطار
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11]. فأنت أيها الإنسان لك سمع فيقال عنك: سميع. ولك علم فيقال: عليم. ولك بصر فيقال: مبصر. ولك قدرة فيقال: قادر. وقد تكون ذا مال وفير فيقال: غني. ولك وجود فيقال: موجود. وأنت حي فيقال: حي.
لكن أهذه الصفات التي فيك هي عين الصفات التي في الله؟ لا؛ لأن صفات الله إنما نأخذها في إطار
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11]. ونحن نشاهد ذلك في أنفسنا؛ فالإنسان منا له حال حياة، وحال موت. وفي حال الحياة له حالتان: حالة يقظة، وحالة نوم. وفي حالة اليقظة نحن نرى بقانون البصر، ولهذا البصر حدود؛ فهو محكوم بقانون الضوء، وكذلك السمع محكوم بقانون الصوت والموجة والذبذبة.
ومع ذلك فالإنسان ينام ويغمض عينيه ويرى رؤيا فيها ألوان حمراء وخضراء وغيرها، فبأي شيء أدركت الألوان وعينك مغمضة؟ إذن فما دام في البشر رؤيا بدون عين فلا تقل عن رؤيا الله لنا إن له عيوناً مثل عيوننا، بل هو يرى في إطار
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11]. إنه سبحانه وتعالى قيوم يحكم عبادَه في الزمان والمكان في حالة يقظتهم وفي حالة نومهم.
ومثال من حياتنا اليومية، نحن نجد الرجل وزوجه ينامان في فراش واحد، وقد يرى الرجل في المنام أنه يواجه أعداءه، وترى الزوجة نفسها محاطة بسعادة الأبناء والأحفاد، ويستقيظ كل منهما ليحكي ما رأى في أكثر من ساعة، على الرغم من أن مخ الإنسان لا يعمل في أثناء النوم إلا لسبع ثوان.
إذن، ففي النوم تُلغى المعية وكذلك الزمن، والمكان. فإذا كانت تلك هي القوانين التي تحكم الإنسان، فعلينا أن نعرف أن خالق كل القوانين وهو الحق لا يمكن إدراك صفاته، وعلينا أن نأخذها في إطار:
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11]. ويقول الحق من بعد ذلك:
{ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ ... }.