خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٣٧
-الأنعام

خواطر محمد متولي الشعراوي

إن الله سبحانه يوضح مواصلتهم للجدل، وطلبهم لآية ما. والآية هي الأمر العجيب الذي يبعثه الله على يد نبي ليثبت صدقه في تبليغه عن الله. وكأنهم لا يريدون أن يعترفوا أن القرآن آيات بينات على الرغم من اعترافهم بعظمة القرآن، فقد قالوا: { { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
ولكنهم لم يعترفوا بالقرآن كآية معجزة؛ لأنهم عرفوا أن الرسل السابقين قد نزل كل منهم بآية معجزة منفصلة عن المنهج الذي جاء به، فموسى عليه السلام معجزته العصا، ويده التي أخرجها من جيبه فكانت بيضاء من غير سوء، وشق البحر، ومنهجه التوراة، وعيسى عليه السلام كانت معجزته التكلم في المهد بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وجاء الإنجيل مكملاً بالروحانيات تلك الماديات التي ملأت نفس اليهود. وبعد أن قالوا عن رسول الله إنه يفتري الكذب تحداهم الحق أن يأتوا بمثل القرآن ثم نزل بهم إلى أن يأتوا بعشر سور من مثله ثم إلى أن يأتوا بمثل سورة واحدة من أقصر سوره. إذن، فالافتراء وارد عليكم أيضا، فكما أن محمداً افترى فيمكن أن تفتروا أنتم كذلك فيما نبغتم وتفوقتم فيه من أساليب البلاغة. إن القرآن قد تحداهم وما دام قد تحداهم فإنه معجزة؛ لأن الأصل في المعجزة التحدي، ويتحداهم الله أن يأتوا بسورة من مثل سور القرآن فلا يستطيعون، إنه يتحداهم في أمر اللغة، وهم سادة اللغة وهم النابغون فيها.
جاء القرآن ليتحداهم في مجال نبوغهم، ولكنّ بعضاً من العرب طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعجزة حسية كونية يرونها. وأعماهم الحمق عن معرفة أن المعرفة الحسية موقوتة التأثير، من يراها يقول إنها معجزة، ومن لم يرها قد يصدق وقد يكذب. ونحن - المسلمين - لا نصدق المعجزات الحسية إلا لأن القرآن أوردها؛ ولأن القرآن قد جاء للناس كافة؛ لذلك لم يكن من المعقول أن يكون المنهج الخاتم منفصلاً عن معجزة النبي الذي جاء به.
جاء القرآن - إذن - معجزة لرسول الله وهو آية معنوية دائمة أبداً بما فيه من أحكام ونظم، وآيات كونية وقضايا علمية، وإذا كان الخلق يختلفون في اللغات فما تضمنه القرآن من معجزات لن تنقضي عجائبه إلى يوم القيامة. وكل يوم نستنبط من آيات الله معجزات جديدة تُخرس كل مكذب، لأنها معجزات كونية، ومن العجيب أن بعض الذين يستنبطونها ليسوا من المسلمين، ولا هم من المؤمنين بالقرآن.
ولكنّ بعضاً من المشركين لم يكتف بالقرآن على أنه آية ومعجزة دالة على صدق الرسول، وطالبوا بمعجزة حسية. فهل كان ذلك الطلب للآية حقيقيا يرجون من ورائه معرفة الحق والإيمان له أو كان مجرد سبب يختفون وراءه حتى لا يؤمنوا؟ إن كان طلب الآية هو أمراً حقيقياً نابعاً من قلوبهم فإننا نأخذ بأيديهم ونرشدهم ونهديهم ونقول لهم: إن الرسل التي جاءت بمعجزات غير كتاب المنهج كانوا رسلاً إلى أمم مخصوصة وفي زمان محدود، فجاءت معهم آيات كونية تُرَى مرة واحدة وتنتهي، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء لعموم الزمان، ولعموم المكان، ولذلك لا تصلح أن تكون آيته ومعجزته حسية؛ حتى لا تنحصر في الزمان والمكان المحددين، وشاء الحق أن تكون معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المنهج الدائم. وكنز القرآن أظهر وكشف من من الآيات الكونية ما تحقق من علم ورآه البشر، وما سيظل يكتشفه البشر إلى أن تقوم الساعة. ولذلك قال الحق:
{ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [فصلت: 53].
أي أن البشر سيريهم الله وسيكتشف لهم من آياته حتى يظهر ويستبين لهم وجه الحق، وإن كنتم تقترحون آية لمجرد التمحك والتلكؤ في إعلان الإيمان، فلتعلموا أن أقواماً غيركم اقترحت الآيات وأنزل الحق هذه الآيات ومع ذلك كفروا:
{ { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ } [الإسراء: 59].
مثلما طلب قوم صالح الناقة، فجاءهم بالناقة، فكذبوا بتلك الآية وعقروا الناقة:
{ { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا } [الشمس: 14]. إذن فمسألة طلب الآيات قد سبقت في أمم سابقة، وسبحانه قادر على إنزال الآيات، ولكن أكثر المشركين لا يعلمون. وسيقولون مثلما قال الذين تكلم فيهم الحق سبحانه: { { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ } [الإسراء: 59].
ولقد أنزل الحق سبحانه القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم وفيه آيات كثيرة عظمت وجلت عن أن تحصى وتحصر، ولو أنهم اقترحوا آية وحققها الله لهم ولم يؤمنوا لكان حقاً على الله أن يبيدهم جميعاً. ولقد أعطى الله رسوله صلى الله عليه وسلم وعداً بألا يهلكهم وهو صلى الله عليه وسلم فيهم:
{ { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [الأنفال: 33].
إذن فعدم استجابة الله لإنزال آية لهم هو نوع من الحرص عليهم، ذلك أن منهم من سيؤمن، ومنهم من سيكون من نسله مؤمنون يحملون المنهج ويقومون به إلى أن تقوم الساعة لأنهم أتباع وحملة الرسالة الخاتمة.
وبعد ذلك يأتي الحق بالبيان الارتقائي:
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ ... }.