خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٢٠
-التوبة

خواطر محمد متولي الشعراوي

والحديث هنا فيه رجوع إلى الذين تخلفوا عن الغزوة، وعرفنا من قبل أنك ساعة تقول: "ما كان لك أن تفعل كذا" أي: أنك تنفي القدرة على الفعل، أما إن قلت: "ما ينبغي" أي: عندك قدرة على الفعل، ولا يجب أن تفعله.
وهنا يقول الحق: { مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ } وبعضهم قد تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو.
ثم يقول سبحانه: { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } وهنا حديث عن نوعين من الأنفس: أنفس من قالوا بالتخلف، ونفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت إذا قلت: "رغبت"، معناها: أنك ملتَ ميلاً قلبياً، فإن قلت: "رغبت في" كان الميل القلبي إلى ممارسة الفعل وفيها التغلغل، أما إن قلت: "رغبت عن" وفيها التجاوز، هذا يعني أن الميل القلبي يهدف إلى الابتعاد عن الفعل. إذن: فحرف الجر هو الذي يحدِّد لون الميل القلبي.
وقوله الحق: { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } أي: أنهم زهدوا في أمر صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضَّلوا أمر نفوسهم على أمر رسول الله، فيبين الحق لهم أنهم ما كان لهم أن يفعلوا ذلك؛ لأنكم ما دمتم آمنتم بالله، فإيمانكم لا يكمل حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليكم من نفوسكم.
ولذلك نجد سيدنا عمر رضي الله عنه لما سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه" ، فقال: يا رسول الله، أنا أحبك عن أهلي وعن مالي إنما عن نفسي، فلا.
وهكذا كان صدق عمر رضي الله عنه، فكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم القول:
"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه" . فعلم عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حازم في هذه القضية الإيمانية، وعلم أن الحب المطلوب ليس حب العاطفة، إنما هو حب العقل، وهناك فرق بين حب العاطفة وحب العقل؛ فحب العاطفة لا تكليف فيه، لكن حب العقل يأتي بالتكليف.
وعلى سبيل المثال: فأنت تحب ابنك بعاطفتك، حتى وإن لم يكن ذكيّاً، لكنك تحب بعقلك ابن عدوك إن كان ذكيّاً وأميناً وناجحاً. وضربنا المثل من قبل وقلنا: إن الإنسان قد يحب الدواء المرّ؛ لأن فيه الشفاء، والإنسان لا يحب هذا الدواء بعواطفه، ولا يتلذذ به وهو يشربه، بل يحبه بعقله؛ لأن هذا الدواء قد يكون السبب في العافية، وإن لم يجده في الصيدليات يغضب ويشكو، ويسرّ بمن يأتي له به من البلاد الأخرى.
إذن: فالذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة أو ممن حولهم ما كان لهم أن يتخلفوا؛ لأن هذا يناقض إيمانهم في أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليهم من أنفسهم، وكان من الواجب أن يرغبوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنفسهم، أما أن يكون الأمر بالعكس، فلا. لأن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يأتي لهم بالخير.
أما اتباع حبهم لأنفسهم فهو حب ضيق البصيرة، سيأتي لهم بالشرور، وإن جاء لهم بخير فخيره موقوت، وبحسب إمكاناتهم، ولكن حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنفسهم يأتي لهم بالخير الثابت الدائم الذي يتناسب مع قدرة الله سبحانه.
ثم يقول سبحانه: { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } و { ذٰلِكَ } إشارة إلى حيثيات الترغيب التي يأخذون بها الجزاء الطيب من الحق سبحانه بأنهم { لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ }، ونعلم أن الظمأ قد أصابهم في جيش العسرة لدرجة أن المقاتل كان يذبح البعير، ويصفي الماء الذي في معدته لِيبُلَّ ريقه، وريق زملائه.
{ وَلاَ نَصَبٌ } والنَّصَب: هو التعب، وكانت الغزوة في جو حار مرهق.
{ وَلاَ مَخْمَصَةٌ } أي: المجاعة، وقد كانوا يأكلون التمر الذي أصابه الدود، والشعير الذي انتشر فيه السوس. وإن كانوا قد عانوا من كل ذلك فهو في سبيل الله القادر على أن يمُنَّ عليهم بكل خير جزاء لما يقدمونه في سبيل نصرته.
{ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ } نعلم أن الكفار كان لهم رقعة من الأرض يتمركزون فيها، فحين يغير عليهم المؤمنون ويزحزحونهم عن هذا المكان، وينزلون إلى الوديان والبساتين التي يملكها الكفار، فهذا أمر يغيظ أهل الكفر، إذن: فهم حين يطأون موطئاً، فهذا يغيظ الكفار.
{ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً } أي: يأخذون من عدوٍّ منالاً، والمعنى: أن يقهروا العدو فيتراجع ويشعر بالخسران، حينئذ يأخذون الجزاء الخيِّر من الله، وكل ما حدث أن الظمأ والنصب والمخمصة ووطء موطىء يغيظ الكفار والنيل من عدوهم نيلاً. كل واحدة من هذه الأحداث لها جزاء يحدده الحق: { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ }.
إذن: فالذين رغبوا عن رسول الله بأنفسهم ولم يخرجوا للغزوة قد خسروا كثيراً؛ خسروا ما كتبه الحق سبحانه من عمل صالح جزاءً لكل حادث قابله مَنْ خرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويُنهي الحق سبحانه الآية: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } فهؤلاء الذين أحسنوا لا يضيع الله أجرهم أبداً.
ثم يأتي بأحداث أخرى غير الظمأ والنصب والمخمصة ووطء الموطىء الذي يغيظ الكفار، والنَّيْل من عدو الله نيلاً، فيقول سبحانه: { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ ... }.