خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
٧٨
-التوبة

خواطر محمد متولي الشعراوي

والعلم هنا مقصود به معرفة الخبر الذي لم يكن معروفاً قبل ذلك، وقوله سبحانه: { أَلَمْ يَعْلَمُواْ } فيه همزة الاستفهام؛ ولم النافية مثل قول الحق سبحانه: { { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [الفيل: 1].
ونحن نعرف أن الإخبار بين المتكلم والمخاطب له عدة صور: الصورة الأولى؛ أن يخبر المتكلم المخاطب بما عنده، وهذا "خبر". والصورة الثانية: أن لا يخبر المتكلم مخاطبه بالخبر، بل يجعل المتكلم نفسه يقول الخبر، مثل قول أحد المحسنين: ألم أحسن إليك؟ وكان في استطاعته أن يقول "أنا أحسنت إليك"، فيكون خبراً من جهته، لكنه يريد أن يعطي للخبر قوة، فجعل الكلام من المسْتَفهَم منه، وكأن عرض الأمر مَعْرِض السؤال في معرض النفي؛ ثقة في أن المخاطَب لن يجد إلا جواباً واحداً هو: نعم أحسنت إليّ.
إذن: فالخبر إما أن يكون خبراً مجرداً عن النفي، أو خبراً معه النفي، أو خبراً معه الاستفهام. وأقوى أنواع الإخبار: الخبر الموجود معه النفي، والموجود مع النفي الاستفهام؛ لأن الخبر على الصورة الأولى يكون من المتكلم، والخبر من المتكلم قابل لأن يكون صادقاً وأن يكون كاذباً. ولكن الاستفهام يقتضي جواباً من المخاطَب، ولا يجيب المخاطَب إلا بما كان في نفس المتكلم؛ ولو كان المتكلم يعلم أن المخاطَب قد ينكر فلن يسأله. أو يقول لإنسان: أنا راضي ذمتك، وهذا القول يعني أن قائله علم أنه لا حق غير هذا، ومن يدير الكلام في عقله لن يجد إلا أن ما يسمعه هو الحق.
{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } وما هو السر؟ وما هي النجوى؟ السر: هو ما تكتمه في نفسك ولا تطلع عليه أحداً، فليس السر هو ما تُسِرُّ به للغير؛ لأن هذه هي النجوى، وأصل النجوى البُعْد.
ويقال: فلان بنجوة عن كذا، أي: بعيد عن كذا. وأصل النجوى أيضاً المكان المرتفع في الجبل، فكأن المرتفع بالجبل بعيد عن مستوى سطح الأرض. وحين يرغب إنسان أن يكلم أحداً بكلام لا يسمعه غيرهما؛ فهو يستأذنه في الابتعاد عن بقية الجلوس ليتكلم معه كما يريد، أو يُخفض من صوته فلا يسمعه سوى الإنسان الذي يريد أن يهمس له بكلمة، ولا يسمعها أحد آخر، ولذلك سموها المناجاة؛ وهي كلام لا يسمعه القريب؛ لأنك خفضت صوتك خَفْضاً يخفى على القريب، فكأنه صار بعيداً.
إذن: فالسر: هو ما احتفظت به في نفسك، والنجوى: هو ما أسررت به للغير بحيث لا يعلمه من يجالسك.
والذين منعوا الصدقة، لا بد أنهم اتفقوا على ذلك فيما بينهم، وأنهم تكلموا في هذا الأمر - منع الصدقة - بعد أن صاروا أغنياء ولهم أموال كثيرة، وتمردوا على منطق الإسلام مع أنهم كانوا حريصين دائماً أن يظهروا في إسلامهم مظهراً يفوق المسلمين الحقيقيين، فكانوا دائماً في الصفوف الأولى للصلاة كي يستروا نفاقهم.
وحين يوضح الحق سبحانه وتعالى أنهم أسرّوا في نفوسهم كلاماً؛ فهذا الإسرار في النفس حين يُخبر به الله؛ هو هتك لحجاب المكان والزمان معاً، وأعلم سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بما دار في هذا الإسرار، كما هتك له من قبل حجب الزمان الماضي. وذلك في الأمور التي لم يشهدها، ولم يسمعها من معلم، ولم يقرأها في كتاب لأنه أمّي، فأخبر رسول الله عن أكثر من أمر لم يشهده ولم يسمعه ولم يقرأه.
إذن: من أين جاء بذلك؟ أعلمه به الحق سبحانه الذي يعلم خُبْأة السماوات والأرض، وهتك له أيضاً حجاب الزمن المستقبل؛ فعلم صلى الله عليه وسلم الأحداث قبل أن تقع، وأعلمه إياها مَنْ ملكَ ناصية الزمان، وملك ناصية المكان، وملك ناصية الأحداث. وهذا هو هَتْكُ حجاب الزمن المستقبل، وهتك سبحانه لرسوله حجاب المكان، فكان صلى الله عليه وسلم يخبرهم عن شيء في نفوسهم، فقد أوحى له الحق:
{ { وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ ... } [المجادلة: 8].
بالله عندما يسمع الرجل من هؤلاء لما قاله في نفسه، ويخبره رسول الله بما قال، فمن الذي هتك الحجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
إن الذي هتك الحجاب لرسول الله هو من يعلم السرّ وأخفى؛ فلا توجد حجب غائبة عن الله؛ لأن حجب الغيب إنما تكون على البشر؛ حجاب ماضٍ، وحجاب مستقبل، وحجاب مكان، وحجاب زمان.
{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } أي: أن علم الله ليس مقصوراً على معرفة أمورهم هم، بل علم الله سرّهم ونجواهم؛ لأن صفته القيومية، وأنه علام الغيوب؛ يعلم غيب هذا، وغيب هذا، وغيب هذا، وغيب هذا، وجاءت المبالغة من تكرار علم غيب كل أحد.
إذن: { عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } تعني أنه يعلم حتى ما حاولْتَ كتمه وستره، فقد قال سبحانه:
{ { إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ ... } [لقمان: 16].
إذن: فعلم الحق جل جلاله لا يغيب عنه شيء.
ثم ينقلنا الحق سبحانه وتعالى إلى صورة أخرى من صور المنافقين وما يفعلونه بالمؤمنين.. فقال جل جلاله:
{ ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ... }.