الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم
{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ } لانتفاعكم في دنياكم بوسط أو غيره، وفي دينكم استدلالاً { مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } ولو سماء ونحوه، فالأصل في كله الإباحة وما يعم كل ما فيها لأنفسها إلا إذا أريد بها جهة السفل { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ } قصد بإرادته { إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ } عدلهن بلا عوج، جمع؛ لأنها في معنى الجمع أو جمع سماة أو مبهم يفسره { سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ } فخلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها ودحو الأرض، أي: بسطها بعده كما قال أبنُ عَبَّاسٍ وغَيرهُ.
فلا يرد استشكال كثير المفسرين بأن هذا وما في "حَم" السجدة من قوله: { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } [فصلت: 10] ينافي ما في النازعات، إذ فيها { { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 30] فأولوه تارة بأن ثُمَّ هُنا للتراخي الرتبي لا الزماني وتارة بأن "بعد" ليس ظرفاً "لدحاها"، وأن نصب الأرض بفعل دَلَّ عليه: { { ءَأَنتُمْ أَشَدُّ } [الحشر: 13]؛ لأن خلق ما في الأرض كالجبال والأنهار ونحوها ليس بِدَحْوٍ ولا يستلزمه، فيمكن خلقها قبل دحوها وقبل السماء، وأما دحوها فبعد السماء؛ ليوافق لتفسير أكابر الصحابة، والله -تعالى- أعلم.
{ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَ } اذكر { إِذْ قَالَ رَبُّكَ } تعليماً للمشاورة وتعظيماً لآدم وبياناً؛ لأنَّ الحِكْمة تَقْتضيْ إيجادَ مَا يَغْلبُ خيرهُ شرَّهُ { لِلْمَلَٰئِكَةِ } جمع مَلْأَكَة الذي مخففه ملك، والراجح أنه من الملك لا من الألوكة بمعنى الرسالة، والمراد مُطْلَقُهُم، أَوْ مَلَائكةُ الأَرض.
والمَلَكُ: جسم لطيف قادر على التشكل بأشكال مختلفة [وعند الحكماء جَوَاهِرُ مُجَرَّدةٌ مخالفة للنفوس الناطفة حقيقة]، قيل: فمنهم المقربون المستغرقون في معرفة الحق، ومنْهُم السَّمَاويُّونَ من يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ومنهم الأرضيون من يدبر أمر الأرض { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } من الله؛ لينفذ أحكامه امتحانا لهم وتهديدا، لَا عجْزاٍ.
والخليفةُ: مَنْ يَخْلف ويَنُوْبُ غَيْرَهُ، كما أن الخالفة من سيخلفه الرئيس على أهله أو من الجن أو أراد آدم وذريته يخلف بعضهم بعضاً { قَالُواْ } استكشافاً { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } إنما عرفوه بإعلام الله، أو تلقياً مِنَ اللَّوْحِ أو قياساً لأحد الثقلين على الأخر.
والسَّفْكُ والسَّبْكُ والسَّفْحُ والسَّنُ أنواع من الصَّبٌ { وَنَحْنُ } بإزاء هاتين الصفتين { نُسَبِّحُ } نُبَعِّدُكَ عن كل نقص ملتبسين { بِحَمْدِكَ } تداركوا به ما أوهم اسنادهم التسبيح إلى أنفسهم { وَنُقَدِّسُ } نطهر نفوسنا عن المعاصي { لَكَ } أو نقدسك عن المعاصي أو نقدسك عن النقص، فنحن أحق { قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من المصالح، ثم خلقه من أديم الأرض أي: وجهها.