{ثم قست قلوبكم} يا معشر اليهود، أَي: اشتدَّت وصلبت {من بعد ذلك} من
بعد هذه الآيات التي تقدَّمت من المسخ ورفع الجبل فوقهم، وانبجاس الماء من
الحجرِ، وإحياء الميت بضرب عضوٍ، وهذه الآيات ممَّا يصدِّقون بها {فهي
كالحجارة} في القسوة وعدم المنفعة؛ بل {أشد قسوة} وإنَّما عنى بهذه القسوة
تركهم الإِيمان بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا صدقه، وقدرةَ الله تعالى على عقابهم
بتكذيبهم إيَّاه، ثمَّ عذر الحجارة وفضَّلها على قلوبهم فقال: {وإنَّ من الحجارة
لما يتفجر منه الأنهار وإنَّ منها لما يشقَّق فيخرج منه الماء وإنَّ منها لما يهبط}
ينزل من علوٍ إلى أسفلٍ {من خشية الله} . قال مجاهدٌ: كلُّ حجرٍ تفجَّر منه
الماء، أو تشقَّق عن ماء]، أو تردَّى من رأس جبلٍ فهو من خشية الله تعالى، نزل به
القرآن. ثمَّ أوعدهم فقال: {وما الله بغافلٍ عمَّا تعملون} ثمَّ خاطب النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم
والمؤمنين، فقطع طمعهم عن إيمانهم، فقال:
{أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} وحالهم أنَّ طائفةً منهم كانوا {يسمعون كلام الله}
يعني التَّوراة {ثم يحرفونه} يُغيِّرونه عن وجهه. يعني: الذين غيَّروا أحكام
التَّوراة، وغيَّروا آية الرَّجم، وصفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {من بعد ما عقلوه} أَيْ: لم يفعلوا
ذلك عن نسيانٍ وخطأٍ، بل فعلوه عن تعمُّدٍ {وهم يعلمون} أنَّ ذلك مَكْسَبةٌ
للأوزار.
{وإذا لقوا الذين آمنوا} يعني: منافقي اليهود {قالوا آمنا} بمحمَّدٍ، وهو نبيٌّ
صادقٌ نجده في كتبنا {وإذا خلا بعضهم إلى بعض} يعني: إذا رجع هؤلاء
المنافقون إلى رؤسائهم لاموهم فقالوا: {أتحدثونهم} أتخبرون أصحاب محمَّدٍ
- صلى الله عليه وسلم - {بما فتح الله عليكم} من صفة النَّبيِّ المُبشَّر به {ليحاجُّوكم}
ليجادلوكم ويخاصموكم {به} بما قلتم لهم {عند ربكم} في الآخرة، يقولون:
كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقة {أفلا تعقلون} أفليس لكم ذهن الإنسانيَّة؟
فقال الله تعالى:
{أولا يعلمون أنَّ الله يعلم ما يسرون} من التَّكذيب، يعني: هؤلاء المنافقين {وما
يعلنون} من التَّصديق.
{ومنهم} ومن اليهود {أميُّون} لا يكتبون ولا يقرؤون {لا يعلمون الكتاب إلاَّ
أمانيّ} إلاَّ أكاذيب وأحاديثَ مُفتعلةً يسمعونها من كبرائهم {وإن هم إلاَّ يظنون}
أَيْ: إلاَّ ظانِّين ظنَّاً وتوهُّماً، فيجحدون نُبُوَّتَكَ بالظَّنِّ.
{فويلٌ} فشدَّةُ عذابٍ {للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} أَيْ: من قِبَلِ أنفسهم من
غير أن يكون قد أُنزل {ثم يقولون هذا من عند الله} الآية. يعني اليهود، عمدوا
إلى صفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وكتبوا صفته على غير ما كانت في التَّوراة، وأخذوا عليه
الأموال فذلك قوله تعالى: {وويلٌ لهم ممَّا يكسبون} [من حُطَام الدُّنيا] فلمَّا
أوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنَّار عند تكذيبهم إيَّاه.