خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٢٢٩
-البقرة

النهر الماد

{ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ } إن كانت الْ للعهد في الطلاق السابق، فالمعنى أن الطلاق الذي تملك فيه الرجعة فهو مرتان والثالث لا تملك فيه الرجعة. وقال ابن عباس: بين أن طلاق السنة المندوب هو مرتان. قيل: والمعنى بذلك تفريق الطلاق إذا أراد أن يطلق ثلاثاً وهو يقتضيه اللفظ لأنه لو طلق مرتين معاً في لفظ واحد ما جاز أن يقال: طلقها مرتين، وكذلك لو دفع إلى رجل درهمين، لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين حتى يفرق الدفع فحينئذٍ يصدق عليه وهو مبحث صحيح. وما زال يختلج في خاطري أنه لو قال أنت طالق مرتين أو ثلاثاً انه لا تقع إلا واحدة لأنه مصدر للطلاق ويقتضي العدد فلا بد أن يكون الفعل الذي هو عامل فيه يتكرر وجوداً كما تقول: ضربت ضربتين أو ثلاث ضربات، لأن المصدر هو مبين لعدد الفعل فمتى لم يتكرر وجوداً استحال أن يتكرر مصدره، وإن تبين رتب العدد. فإِذا قال: أنت طالق ثلاثاً، فهذا لفظ واحد ومدلوله واحد، والواحد يستحيل أن يكون ثلاثاً أو اثنين ونظير هذا أن ينشىء الانسان بيعاً بينه وبين رجل فيقول له عند التخاطب: بعتك هذا ثلاثاً. فقوله ثلاثاً لغو وغير مطابق لما قبله والانشاءات أيضاً يستحيل التكرار فيها حتى يصير المحل قابلاً لذلك الانشاء وهذا يعسر إدراكه على من اعتاد أنه يفهم من قول من قال طلقتك مرتين أو ثلاثاً أنه يقع الطلاق مرتين أو ثلاثاً. وظاهر الآية العموم فيدخل في الطلاق الحر والعبد فيكون حكمها سواء. ونقل أبو بكر الرازي اتفاق السلف وفقهاء الأمصار على أن الزوجين المملوكين ينفصلان بالثنتين فلا تحل له بعدهما إلا بزوج والطلاق مصدر طلقت المرأة ويكون يعني التطليق كالسلام بمعنى التسليم: وهو مبتدأ، ومرتان: الخبر على حذف مضاف أي عدد الطلاق المشروع فيه الرجعة أو الطلاق السني المشروع واحتيج إلى الحذف ليطابق الخبر المبتدأ والمعنى في المسنون بقوله:
{ مَرَّتَانِ } أي مرة بعدَ مرة. ولا يراد به ما نريد على الثنتين. لقوله بعد:
{ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ } فإِمساك هو الرجعة من الثانية، أو تسريح بإِحسان هي الطلقة الثالثة ولذلك جاء بعدها:
{ { فَإِنْ طَلَّقَهَا } [البقرة: 230] أي فإِن سرحها الثالثة. وقال الزمخشري: ولم يرد بالمرتين الثنتين ولكن التكرير كقوله تعالى: { { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [الملك: 4] أي كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين، ونحو ذلك من التثاني الذي تراد بها التكرير. قولهم: لبيك وسعديك وحنانيك وهذا ذيك ودواليك. "انتهى". وهو في الظاهر مناقض لما قال قبل ذلك ومخالف لما في نفس الأمر. إما مناقضته فإِنه قال في تفسير { ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ } أي الطلاق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإِرسال دفعة واحدة فقوله تطليقة بعد تطليقة مناقض في الظاهر لقوله: ولم يرد بالمرتين التثنية لأنك إذا قلت: ضربتك ضربة بعد ضربة إنما يفهم من ذلك الاقتصار على ضربتين وهو مساو في الدلالة كقولك: ضربتك ضربتين، ولأن قولك ضربتين لا يمكن وقوعهما إلا ضربة واحدة بعد ضربة، وأما مخالفته لما في نفس الأمر فليس معرضة، واستعمل للحلف لما جرت العادة في تصافح المتعاقدين ولما أمرهم بتقوى هذا من التثنية التي تكون للتكرير، لأن التثنية التي يراد بها التكرير لا يقتصر بتكريرها على ثنتين ولا ثلاث، بل يدل على التكرير مراراً فقولهم: لبيك معناه إجابة بعد إجابة فما زاد. وكذلك أخواتها وكذلك قوله: كرتين، معناه ثم ارجع البصر مراراً كثيرة، والتثنية في قوله:
{ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ } إنما يراد بهما شفع الواحد وهو الأصل في التثنية ألا ترى أنه لا يراد هنا بقوله: مرتان ما يزيد على الثنتين لقوله بعد: فامساك بمعروف أو تسريح بإِحسان، فإِمساك هو الرجعة من الثانية، أو تسريح بإِحسان هي الطلقة الثالثة، ولذلك جاء بعد فإِن طلقها أي فإِن سرحها الثالثة وإذا تقدر هذا فليس قوله: مرتان دالاً على التكرار الذي لا يشفع الواحد بل هو مراد به شفع الواحد وإنما غر الزمخشري في ذلك صلاحية التكرير بقوله الطلاق الشرعي تطليقة بعد تطليقة فجعل ذلك من باب التثنية التي لا تشفع الواحد ويراد بها التكرير إلا أنه يعكس عليه أن الأصل في التثنية شفع الواحد وان التثنية التي لا تشفع الواحد ويراد بها التكرار لا يقتصر بها على الثلاث الا ترى أن قوله: كرتين ولبيك، وبأنه ليس المعنى فيه الاقتصار على الثلاث في التكرار ولما حمل الزمخشري قوله تعالى:
{ مَرَّتَانِ } على أنه من باب التثنية التي يراد بها التكرير احتاج ان يتناول قوله فإِمساك بمعروف أو تسريح بإِحسان على أنه تخيير لهم بعد أن علّمهم كيف يطلقون بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بواجبهن وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم.
{ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } سبب نزولها حديث جميلة بنت عبد الله بن أبيّ وزوجها ثابت بن قيس بن شماس حين خالعها على حديقته التي كان أعطاها وهو أول خلع في الإِسلام والخطاب في لكم للأزواج لأن الأخذ والإِيتاء منهم. قيل: أو للأئمة والحكام ليلتئم مع قوله:
{ فَإِنْ خِفْتُمْ } لأنه خطاب لهم لا للأزواج ونسب الأخذ والإِيتاء لهم عند التراجع لأنهم الذين يمضون ذلك، ومما أتيتموهن عام فيما أتوهن من صداق وهبة وغيرهما وشيئاً عام في سياق النهي.
{ إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ } هذا استثناء من المفعول له أي لا يحل بسبب من الأسباب إلا بسبب الخوف. والضمير في يخافا عائد على صنفي الزوجين، ولما كان الاستثناء بعد مضى جملة الخطاب جاز الالتفات وله حكمة وهو أن لا يخاطب من كان مؤمناً بالخوف من انتفاء إقامة حدود الله فناسب فيه الالتفات، وكذلك فيما بعده ولو جاء على ما مضى من الحكاية لكان التركيب إلا أن تخافوا ألا تقيموا. وأن يخافا في موضع نصب على إسقاط الحرف.
و{ أَلاَّ يُقِيمَا } مفعول ثان بأن يخافا. وقرىء بضم الياء، وان لا يقيما في موضع رفع على البدل بدل الاشتمال. وقال ابن عطية في قراءة البدل يخافا بالضم: انها تعدت خاف إلى مفعولين احدهما أسند الفعل إليه والآخر بتقدير حرف خبر محذوف فموضع أن خفض بالجار المقدر عنه سيبويه والكسائي ونصب عند غيرهما لأنه لما حذف الجار وصل الفعل الى المفعول الثاني. مثل: استغفر الله ذنباً وأمرتك الخير. "انتهى".
وهو نص كلام أبي علي الفارسي نقله في كتابه إلاَّ التنظير باستغفر الله ذنباً، وليس بتنظير صحيح، لأن خاف لا يتعدى إلى اثنين كاستغفر الله ولم يذكر ذلك النحويون حين عدوا ما يتعدى الى اثنين واصل أحدهما بحرف الجر بل إذا جاء خفت، زيداً ضربه عمراً كان ذلك بدلاً أو من ضربه عمراً كان مفعولاً من أجله، ولا يفهم ذلك على أنه مفعول ثان وقَدْ وَهم ابن عطية في نسبة أن الموضع خفض في مذهب سيبويه [والذي نقله أبو علي وغيره ان مذهب سيبويه] ان الموضع بعد الحذف نصب وبه قاله الفراء، وإن مذهب الخليل انه جر، وبه قال الكسائي وقدّر غير ابن عطية ذلك الحرف المحذوف على، فقال: والتقدير إلا أن يخافا على أن لا يقيما فعلى هذا يمكن أن يصح قول أبي علي وفيه بعد. وقرىء: إلا أن يخافوا أي إلا أن يخاف الزوج والزوجات.
{ فَإِنْ خِفْتُمْ } قالوا الضمير للأولياء أو السلطان. وأقول الضمير للأزواج والزوجات معليا فيه خطاب الذكور والزوجات مندرجات فيه وأن لا يقيما التفات. وقد بينا حكمته وترك إقامة الحدود بالنشوز وسوء الخلق وكراهة كل منهما لصاحبه وترك ما وجب لكل منهما على صاحبه.
{ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي على الزوجين فيما أخذ منهما.
و{ فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ } وما افتدت به عام من صداقها ومن مالها غير الصداق حتى بكل مالها، كما قال عمر رضي الله عنه اخلعْها ولو من قرطها اخلعها بما دون عقاص رأسها. والظاهر تشريكها في ترك إقامة الحدود وان جواز الأخذ منوط بوجود ذلك منهما معاً، وحرم على الزوج أن يأخذ إلا بعد الخوف من أن لا يقيما حدود الله وأكد التحريم بقوله:
{ فَلاَ تَعْتَدُوهَا } ثم توعد على الاعتداء وشذ بكر بن عبد الله المزني فقال: لا يجوز للرجل أن يأخذ من زوجه شيئاً خلعاً لا قليلاً ولا كثير. قال وهذه الآية منسوخة بقوله:
{ { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } [النساء: 20]. والخلع هل هو فسخ أو طلاق قولان للصحابة والتابعين وأئمة المذاهب وليس في الآية ما يدل على تعيين واحد منها.