خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
١
-النساء

النهر الماد

{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ } الجمهور على أنها مدنية ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين أولى الألباب ونبّه تعالى بقوله: { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ } [آل عمران: 195]، على المجازاة. وأخبر أن بعضهم من بعض في أصل التوالد نبه تعالى في أول هذه السورة على اتحاد الأصل وتفرع العالم الانساني منه ليحث على التوافق والتواد والتعاطف وعدم الاختلاف ولينبه بذلك على أن أصل الجنس الانساني كان عابداً لله تعالى مفرده بالتوحيد والتقوى طائعاً له، فكذلك ينبغي أن تكون فروعه التي نشأت منه فنادى تعالى نداءً عاماً للناس وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر وجعل سبب التقوى تذكاره إياهم بأنه أوجدهم وأنشأهم من نفس واحدة، ومن كان قادراً على مثل هذا الإِيجاد الغريب الصنع وإعدام هذه الأشكال والنفع والضر فهو جدير بأن يتقى. ونبه بقوله:
{ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ }، على ما هو مركوز في الطباع من ميل بعض الأجناس إلى بعض وإلفة له دون غيره ليتألف بذلك عباده على تقواه. والظاهر في الناس العموم لأن الألف واللام فيه تفيده والأمر بالتقوى وللعلة إذ ليسا مخصوصين بل هما عامان.
{ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } المراد به آدم عليه الصلاة والسلام. وقرىء واحدة على تأنيث النفس وواحد على التذكير والنفس تذكر وتؤنث، والغالب عليها التأنيث. ومعنى الخلق هنا: الاختراع بطريق التفريع والرجوع إلى أصل واحد. كما قال الشاعر:

إلى عرق الثرى وشجت عروقي وهذا الموت يسلبني شبابي

وفي قوله: من نفس واحدة إشارة إلى ترك المفاخرة والكبر لتعريفه إياهم أنهم من أصل واحد. ودلالة على المعاد، لأن القادر على إخراج أشخاص مختلفين من شخص واحد فقدرته على إحيائهم بطريق الأولى.
{ وَخَلَقَ مِنْهَا } الظاهر أنها منشأة من آدم نفسه ويحتمل أن يكون المعنى في قوله: منها، من جنسه لا من نفسه حقيقة بل اشتركا في الإِنسانية.
{ وَبَثَّ مِنْهُمَا } أي من تلك النفس وزوجها أي نشر وفوق في الوجود. ويقال: أبث الله الخلق رباعياً وبث ثلاثياً.
{ رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } أي كثيرة وحذف الوصف لدلالة ما قبله عليه. وقرىء وخالق وباث باسم الفاعل على إضمار وهو.
{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } كرر الأمر بالتقوى تأكيداً الأول. وقيل: لاختلاف التعليل، وذكر أولاً الرب الذي يدل على الإِحسان والتربية، وثانياً الله الذي يدل على القهر والهيبة، بنى أولاً على الترغيب، وثانياً على الترهيب، كقوله:
{ { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } [السجدة: 16]، وقرىء تسّألون بتشديد السين أصله تتسألون فأدغم التاء في السين، وقرىء تساءلون بتخفيف السين على حذف التاء الثانية.
قال ابن عطية: وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفاً وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة.
قال أبو علي: فإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإِدغام والإِبدال كما قالوا في طسْ طست فأبدلوا من السين الواحدة تاء إذ الأصل طس. قال:

حنّ إليها كحنين الطسّ

"انتهى".
وأما قول ابن عطية: حذفوا التاء الثانية فهذا مذهب أهل البصرة وذهب هشام بن معاوية الضرير الكوفي إلى أن المحذوفة هي الأولى وهي تاء المضارعة وهي مسألة خلاف ذكرت دلائلها في علم النحو. وأما قوله: وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى، كان ينبغي أن ينبه على الإِثبات إذ يجوز الإِثبات وهو الأصل والادغام وهو قريب من الأصل إذ لم يذهب الحرف إلا بأن أبدل منه مماثل ما بعده وأدغم والحذف لاجتماع المثلين. وظاهر كلامه اختصاص الادغام والحذف بتتفاعلون وليس كذلك أما الإِدغام فلا يختص به بل ذلك في الأمر والمضارع والماضي واسم الفاعل واسم المفعول والمصدر وأما الحذف فمختص بما دخلت عليه التاء من المضارع. وقوله: لاجتماع حروف متقاربة ظاهرة تعليل الحذف فقط لقربه أو تعليل الحذف والإِدغام وليس كذلك أما ان كان تعليلاً للحذف فليس كذلك، بل الحذف علته اجتماع متماثلة لا متقاربة، واما إن كان تعليلاً لهما فيصح في الإِدغام لا الحذف كما ذكرنا. وأما قول أبي علي: إذا اجتمعت المتقاربة خففت بكذا فلا يعني أن ذلك حكم لازم إنما معناه أنه قد يكون التخفيف بكذا فكم وجد من اجتماع متقاربة لم تخفف لا بحذف ولا إدغام ولا بدل وإما تمثيله بطسْت في طسّ فليس البدل هنا لاجتماع متقاربة من الكلمة بل هذا من اجتماع المثلين كقولهم في لص: لصت. وقرىء تسألون مضارع سأل وتسلون بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى السين.
وقرىء { وَٱلأَرْحَامَ } نصباً عطفاً على الجلالة على حذف مضاف تقديره وقطع الأرحام ويجوز أن يكون معطوفاً على موضوع به لأنه في موضع نصب. وقرىء والأرحام عطفاً على الضمير في به ويبنيه قراءة من قرأ وبالأرحام. هذا اختيارنا وإن كان مخالفاً لأهل البصرة في أنهم لا يعطفون على الضمير المخفوض إلا بإِعادة الخافض وقد استدللنا على صحة ما اخترناه عند الكلام على قوله تعالى:
{ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة: 217]. ومن ذهب إلى أن الجر هو بواو القسم فبعيد عن الفصاحة.
قال ابن عطية: المضمر المخفوض لا ينفصل فهو كحرف من الكلمة ولا يعطف على حرف. ويرد عندي هذه القراءة يعني قراءة حمزة والأرحام بالجر وجهان: احدهما ان ذكر الأرحام مما يتساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ولا فائدة فيه أكثر من الاخبار بأن الأرحام يتساءل بها وهذا تفريق في معنى الكلم وغض في فصاحته وإنما الفصاحة في أن يكون في ذكر الأرحام فائدة مستقلة. والوجه الثاني: إن في ذكرها على ذلك تقدير التساؤل بها والقسم بحرمتها. والحديث الصحيح يرد بذلك في قوله عليه الصلاة والسلام:
"من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" . "انتهى" كلامه. وما ذهب إليه البصريون وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإِعادة الجار ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك وأنه يجوز وقد أطلتا الاحتجاج على ذلك عند قوله تعالى: { { وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة: 217]، وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرها ونظمها فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وأما قول ابن عطية: ويرد عندي هذه القراءة إلى آخر كلامه، فجاسرة قبيحة منه لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه، إذ عمد إلى قراءة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بها سلف الأمة واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا. القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير واسطة عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت واقرأ الصحابة أبيّ بن كعب رضي الله عنهم عمد إلى ردها هو بشيء خطر له في ذهنه، وهذه الجسارة لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري فإِنه كثيراً ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم. وحمزة رضي الله عنه أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش وحمران بن أعين ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد الصادق. ولم يقرأ حمزة حرفاً من كتاب الله إلا بأثر وكان حمزة صالحاً ورعاً ثقة في الحديث وهو من الطبقة الثالثة ولد سنة ثمانين فاحكم القراءة وله خمس عشرة سنة، وأم الناس سنة مائة، وعرض عليه القرآن من نظراته جماعة منهم سفيان الثوري والحسن بن صالح ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي.
وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيى بن آدم غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض وإنما ذكرت هذا وأطلت فيه لئلا يطلع عمر على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه القراءة فيسيء ظناً بها وبقارئها فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك، ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية لا أصحاب الكنانيش المشتغلون بضروب من مبادي العلوم الآخذون عن الصحف دون الشيوخ.
وقرىء والأرحام على أنه مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه كأنه قيل: والأرحام أي وقطعها مما يتقي.
{ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } والرقيب فعيل للمبالغة من رقب يرقب رقبا ورقوبا ورقباناً أحد النظر إلى أمر ليتحققه على ما هو عليه ويقرن به الحفظ. ومنه قيل للذي يرقب خروج السهم: رقيب، والمعنى أنه تعالى مراع لكم لا يخفي عليه من أمركم شيء.