خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٧
وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
١٨
يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٩
-المائدة

النهر الماد

{ لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ } الآية، ذكر سبحانه وتعالى أن من النصارى من قال أن المسيح هو الله، ومنهم من قال: هو ابن الله، ومنهم من قال: هو ثالث ثلاثة. وتقدم أنهم ثلاث طوائف ملكانية ويعقوبية ونسطورية، وكل منهم يكفر بعضهم بعضاً ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تستر بالإِسلام ظاهراً. وانتمي إلى الصوفية حلول الله تعالى في الصور الجميلة ومن ذهب في ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة كالحلاج والشوذي وابن أحلى وابن عربي المقيم بدمشق وابن الفارض، واتباع هؤلاء كابن سبعين وتلميذ التستري وابن مطرف المقيم بمرسية والصفار المقتول بغرناطة وابن لبّاج وابن الحسن المقيم كان بلَوْزَقة وممن رأيناه يرمي بهذا المذهب الملعون العفيف التلمساني وله في ذلك أشعار كبيرة وابن عباس المالقي الأسود الأقطع المقيم كان بدمشق وعبد الواحد بن المؤخر المقيم كان بصعيد مصر والأيكي العجمي الذي كان تولى المشيخة بخانقاه سعيد السعداء بالقاهرة وأبو يعقوب بن مبشر تلميذ التستري المقيم كان بجارة زويلة بالقاهرة والشريف عبد العزيز المتوفي وتلميذه عبد الغفار القوصي، وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحاً لدين الله يعلم الله ذلك، وشفقة على ضعفاء المسلمين وليحذروا منهم أشد من الفلاسفة الذين يكذبون الله ورسوله ويقولون بقدم العالم وينكرون البعث وقد أولع جهلة من ينتمي للتصوف بتعظيم هؤلاء وادعائهم أنهم صفوة الله وأولياؤه والرد على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين.
{ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } الآية، هذا رد عليهم. والفاء في { فَمَن يَمْلِكُ } للعطف على جملة محذوفة تضمنت كذبهم في مقالتهم، التقدير قل: كذبوا أو قل ليس كما قالوا فمن يملك والمعنى من يمنع من قدرة الله وإرادته شيئاً أي لا أحد يمنع مما أراد الله شيئاً وهذا الاستفهام معناه النفي.
و{ إِنْ أَرَادَ } شرط جوابه محذوف تقديره فعل ذلك. { وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } عام معطوف على ما قبله. وما قبله نص على المسيح وأمه وقد اندرجا في العموم فصارا مذكورين مرة في نص ومرة في العموم.
{ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } والمسيح وأمه. من جملة ما في الأرض فهما مقهوران لله مملوكان له وهذه الجملة مؤكدة لقوله: { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ }، ودلالة على أنه إذا أراد فعل لأن من له ذلك الملك يفعل في ملكه ما يشاء.
{ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } أي أن خلقه ليس مقصوراً على نوع واحد بل ما تعلقت مشيئته بإِيجاده أوجده واخترعه، فقد يوجد شيئاً لا من ذكر ولا أنثى كآدم عليه السلام وأوائل الأجناس المتولد بعضها من بعض، وقد يخلق من ذكر وأنثى، وقد يخلق من أنثى لا من ذكر معها كالمسيح ففي قوله: { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ }، إشارة إلى أن المسيح وأمه مخلوقان.
{ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } كثيراً ما تذكر القدرة عقب الاختراع وذكر الأشياء الغريبة. { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَارَىٰ } الآية، ظاهر اللفظ أن جميع اليهود والنصارى قالوا عن جميعهم ذلك وليس كذلك بل في الكلام لف وإيجاز، والمعنى وقالت كل فرقة من اليهود والنصارى عن نفسها خاصة: نحن أبناء الله وأحباؤه يدل على ذلك.
{ { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ ٱلنَّصَارَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ } [البقرة: 213]. والبنوة هنا بنوة الحنان والرأفة، وأحباؤه جمع حبيب فعيل نحو بمعنى مفعول أي محبوبوه وأجرى مجرى فعيل من المضاعف الذي هو اسم الفاعل نحو لبيب والباء. وقال ابن عباس: هم طائفة من اليهود خوفهم الرسول صلى الله عليه وسلم عقاب الله فقالوا: أتخوفنا بالله ونحن أبناء الله وأحباؤه. بعد قل محذوف تقديره كذبتم في دعواكم.
{ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } ومن كان محبوباً لله وابناً له بمعنى الرأفة لا يعذبه. { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } اضرب عن الاستدلال الأول من غير إبطال وانتقل الى استدلال ثان من ثبوت كونهم بشراً من بعض من خلق فهم مساوون لغيرهم في البشرية والحدوث، وهما يمنعان البنوة فإِن القديم لا يلد بشراً، والأب لا يخلق ابنه، فامتنع بهذين الوصفين البنوة وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله فبطل الوصفان اللذان ادعوها.
{ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ } شامل لليهود والنصارى. { قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا } هو محمد صلى الله عليه وسلم. { يُبَيِّنُ لَكُمْ } مفعوله محذوف تقديره بين لكم شريعة الإِسلام والدين. { عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ } أي على انقطاع من الرسل، إذ لم يكن بين محمد وعيسى عليهما السلام رسول على فترة. قال ابن عباس: أنه كان بين ميلاد عيسى والنبي عليهما السلام خمسمائة سنة وتسع وستون سنة بعث في أولها ثلاثة أنبياء، وهو قوله تعالى:
{ إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } [يس: 14]. وهو شمعون وكان من الحواريين، وقال ابن الكلبي مثل قول ابن عباس إلا أنه قال بينهما أربعة أنبياء واحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ضيّعه قومه.
و{ أَن تَقُولُواْ } مفعول من أجله تقدره البصريون كراهة أن تقولوا، أو حذار أن تقولوا، وقدره الفراء لئلا تقولوا وهو متعلق بقوله: قد جاءكم رسولنا. و{ مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } من زائدة وهو فاعل بقوله ما جاءنا { فَقَدْ جَاءَكُمْ } تكذيباً لهم وخصوصاً اليهود.