خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٤٧
وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
٤٨
وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَاسِقُونَ
٤٩
أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
٥٠
-المائدة

النهر الماد

{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ } الآية، أمر تعالى أهل الانجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام ويكون هذا الأمر على سبيل الحكاية أي وقلنا لهم احكموا أي حين إيتائه عيسى أمرناهم بالحكم بما فيه إذ لا يمكن أن يكون ذلك بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شريعته ناسخة لجميع الشرائع. وقرأ الجمهور: وليحكم بلام الأمر. وقرأ حمزة وليحكم بكسر اللام وفتح الميم جعلها لام كي. والظاهر أن نصب هدى وموعظة على المفعول له وعطف عليه قوله: وليحكم ما كان فاعل هدى وموعظة عائد على الإِنجيل عطف عليه قوله: وأتى باللام لاختلاف الفاعل لأن فاعل وليحكم أهل الإِنجيل. والفاعل في هدى وموعظة. هو الإِنجيل فلما اختلفا على المفعول من أجله باللام، كما تقول: ضربت ابني تأديباً، ولخوف زيد منه، ففاعل التأديب هو الضمير وفاعل الخوف هو زيد. ويجوز أن يكون وهدى وموعظة معطوفاً على ومصدقاً، كأنه يقال: وهادياً وواعظاً. ويكون وقوله: وليحكم على قراءة حمزة متعلقاً بمحذوف تقديره وآتيناه الإِنجيل ليحكم.
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } الآية، ناسب هنا ذكر الفسق لأنه خروج عن أمر الله تعالى إذ تقدم قوله: وليحكم، وهو أمر كما قال تعالى:
{ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ } [البقرة: 34] إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه، أي خرج عن طاعة أمره تعالى.
{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ } الآية، لما ذكر تعالى أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور ولم يذكر من أنزلها عليه لاشتراك علم الجميع في أنها أنزلت على موسى عليه السلام وترك ذلك للمعرفة بذلك ثم ذكر عيسى وأنه آتاه الإِنجيل فذكره مفيداً أنه من جملة الأنبياء إذ اليهود تنكر نبوته وإذا أنكرته أنكرت كتابه فنص عليه وعلى كتابه ثم ذكر إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فذكر الكتاب ومن أنزله عليه مقرر النبوة وكتابه لأن الطائفتين ينكرون نبوته وكتابه. وجاء هنا ذكر المنزل إليه بكاف الخطاب لأنه النص على المقصود، بالحق معناه متلبساً بالحق ومصاحباً له لا يفارقه. وانتصب مصدقاً على الحال.
{ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي لما تقدمه. { مِنَ ٱلْكِتَابِ } الألف واللام فيه للجنس لأنه عني به جنس الكتب المنزلة. { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } قال ابن عباس: أمينا. وعنه أيضاً: شاهداً. وقال الخليل: رقيباً. وبه وفسر الزمخشري قال: ومهيمناً رقيباً على سائر الكتب لأنه يشهد لها بالصحة والثبات. "انتهى كلامه". وقال الشاعر:

مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد

{ فَٱحْكُم بَيْنَهُم } أمر يقتضي الوجوب. والضمير في "بينهم" عائد على المتحاكمين يهوداً أو غيرهم. { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } أي لا توافقهم على أغراضهم الفاسدة من التفريق في القصاص بين الشريف والوضيع وغير ذلك من أهوائهم التي هي راجعة لغير الدين والشرع. { عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ } الذي هو القرآن وضمن تتبع معنى تنحرف أو تنصرف، فلذلك عدى بعن أي لا تنحرف أو تتزحزح عما جاءك متبعاً أهواءهم أو بسبب أهوائهم. قال أبو البقاء: عما جاءك في موضع الحال أي عادلاً عما جاءك ولم يضمن تتبع معنى ما يتعدى بعن وهذا ليس بجيد لأن عن حرف جر ناقص لا يصلح أن يكون حالاً من الجثث كما لا يصلح أن يكون خبراً وإذا كان ناقصاً فإِنه يتعدى بكون مقيد لا بكون مطلق، والكون المقيد لا يجوز حذفه.
{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } الآية الظاهرة أن المضاف إليه كل المحذوف هو أمة أي لكل أمة. والخطاب في "منكم" للناس أي أيها الناس أي لليهود شرعة ومنهاج وللنصارى كذلك وللمسلمين كذلك، قاله علي رضي الله عنه وغيره. ويعنون في الأحكام وأما المعتقد فواحد لجميع العالم توحيد وإيمان بالرسل وكتبها. والشرعية والمنهاج لفظان بمعنى واحد فالثاني تأكيد للأول.
{ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ } مفعول شاء محذوف تقديره ولو شاء جعلكم أمة واحدة. وحذف لدلالة الجواب عليه وهو قوله: لجعلكم أمة واحدة في اتباع الحق أو اتباع الباطل.
{ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم } أي ولكن لم يشأ ذلك ليختبركم فيما آتاكم من الكتب. { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } أي استقبلوا الأعمال الصالحة وهي التي عاقبها أحسن الأشياء. { إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } هو استئناف في معنى التعليل لأمره تعالى باستباق الخيرات كأنه يقول: تظهر ثمرة استباق الخيرات والمبادرة إليها في وقت الرجوع إلى الله تعالى ومجازاته. { فَيُنَبِّئُكُم } أي فيخبركم بأعمالكم وهي كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب وهو إخبار إيقاع. وبهذه التنبئة يظهر الفصل بين المحق والمبطل والمستبق والمقصر في العمل. ونبأ هنا جاءت على وضعها الأصلي من تعديتها إلى واحد بنفسه وإلى آخر بحرف الجر ولم يضمنها معنى أعلم فيعيدها إلى ثلاثة.
{ وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } سبب نزولها قال ابن عباس: قال بعض اليهود لبعض منهم ابن صوريا وشاس بن قيس وكعب بن أسيد: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه، فقالوا: يا محمد قد عرفت انا احبار يهود وأشرافهم وان اتبعناك اتبعك كل اليهود وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ويؤمن بك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وان أحكم ذكروا في إعرابه وجوهاً والذي نختاره أن يكون في موضع رفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر مؤخراً والتقدير وحكمك بما أنزل الله أمرنا وقولنا أو مقدماً والتقدير ومن الواجب حكمك بما أنزل الله وأبعد من ذهب إلى أنه في موضع نصب عطفاً على الكتاب أي وأنزلنا إليك الكتاب والحكم أو في موضع جر عطفاً على بالحق أي بالحق والحكم.
{ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ } أي يستزلوك وحذره تعالى عن ذلك وإن كان مأيوساً من فتنتهم إياه وموضع أن يفتنوك نصب على البدل تقديره واحذرهم فتنتهم إياك أو يكون مفعولاً من أجله تقديره من أن يفتنوك وحذف من. { فَإِن تَوَلَّوْاْ } الآية أي فإِن تولوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره ومعنى أن يصيبهم ببعض ذنوبهم أي يعذبهم ببعض آثامهم وأبهم بعضاً هنا ويعني به والله أعلم التولي عن حكم الله وإرادة خلافه فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك وأراد أنهم ذوو ذنوب جمة كثيرة العدد وهذا الذنب مع عظمها بعضها. { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } هذا استفهام معناه الإِنكار على اليهود حيث هم أهل الكتاب وتحليل وتحريم من الله تعالى ومع ذلك يعرضون على حكم الله تعالى ويختارون عليه حكم الجاهلية. وقرىء: أفحكم بالنصب وهو مفعول يبغون وبالرفع على الابتداء والخبر يبغون وحذف الضمير العائد على المبتدأ من الجملة تقديره يبغونه كقوله:

وخالد يحمد ساداتنا بالحق لا يحمد بالباطل

تقديره يحمده.
{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً } أي لا أحد أحسن من الله حكماً وتقدم وإن أحكم بينهم بما أنزل الله فجاءت هذه الجملة مشيرة لهذا المعنى والمعنى أن حكم الله هو الغاية في الحسن وفي العدل وهو استفهام معناه التقدير ويتضمن من التنكير عليهم واللام في لقوم يوقنون للبيان فيتعلق بمحذوف تقديره أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون.