خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٢٢
وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
١٢٣
وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ
١٢٤
-الأنعام

النهر الماد

{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ } قال ابن عباس: نزلت في حمزة وأبي جهل رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث فأخبر بذلك حمزة حين رجع من قنصه وبيده قوس وكان لم يسلم فغضب فعلا بها أبا جهل وهو يتضرع إليه ويقول: سفّه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله تعالى، وأسلم رضي الله تعالى عنه. ولما تقدم ذكر المؤمنين والكافرين مثل تعالى فيهما بأنه شبّه المؤمن بعد أن كان كافراً بالحي المجعول له نور يتصرف به كيف سلك، والكافر بالمختبط في الظلمات المستقر فيها دائماً ليظهر الفرق بين الفريقين، والموت والحياة والنور والظلمة مجاز، فالظلمة مجاز عن الكفر، والحياة مجاز عن الإِيمان، والموت مجاز عن الكفر. والجملة من قوله: أو من، معطوفة على ما قبلها. والأصل تقديم واو العطف وإنما قدمت الهمزة لأن الاستفهام له صدر الكلام وكان الأصل وآمن ومن مبتدأ موصول بمعنى الذي وكان ميتاً صلته ولما ذكر صفة الإِحسان إلى العبد المؤمن نسب ذلك إليه فقال فأحييناه.
{ وَجَعَلْنَا لَهُ } وفي صفة الكافر لم ينسبها إلى نفسه، بل قال:
{ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ } وكمن في موضع خبر من المتقدمة الذكر، ومن في كمن: موصولة. ومثله في الظلمات من مبتدأ وخبر صلة لمن ومثله معناه صفته وعبر بها عن الذات كأنه قيل: كمن هو في الظلمات. وفي الناس: إشارة إلى تنويره على نفسه وعلى غيره من الناس فذكر أن منفعة المؤمن ليست مقتصرة على نفسه، وقابل تصرفه بالنور وملازمة النور له باستقرار الكافر في الظلمات، وكونه لا يفارقها، وأكد ذلك بدخول الباء في خبر ليس.
{ كَذَلِكَ زُيِّنَ } الإِشارة بذلك إلى إحياء المؤمن أي كما أحيينا المؤمن زين للكافرين فقابل الشىء بضده أو إشارة إلى كينونة الكافر في الظلمات زين للكافرين فقابل الشىء بمثله.
{ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ } الآية أي مثل ذلك الجعل جعلنا في مكة صناديدها.
{ لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } جعلنا في كل قرية وتضمن ذلك فساد حال الكفرة المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ حالهم حال من تقدمهم من نظرائهم الكفار وجعلنا بمعنى صيرنا ومفعولها الأول أكابر مجرميها، وفي كل قرية المفعول الثاني، وأكابر على هذا مضاف إلى مجرميها. وأجاز أبو البقاء أن يكون مجرميها بدلاً من أكابر. وأجاز ابن عطية أن يكون مجرميها المفعول الأول، وأكابر المفعول الثاني والتقدير مجرميها أكابر وما أجازاه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهو أن أفعل التفضيل إذا كان بمن ملفوظاً بها أو مقدراً أو مضافاً إلى نكرة كان مفرداً مذكراً دائماً سواء كان لمذكر أم لمؤنث مفرد أو مثنى أو مجموع فإِذا أنث أو ثنى أو جمع طابق ما هو له في ذلك ولزمه أحد أمرين: أما الألف واللام، أو الإِضافة إلى معرفة، وإذا تقرر هذا فالقول بأن مجرميها بدل من أكابر أو أن مجرميها مفعول أول خطأ لإِلتزامه أن يبقى أكابر مجموعاً وليس فيه ألف ولام ولا هو مضاف إلى معرفة، وذلك لا يجوز. والهاء في مجرميها عادة على قرية فلا يجوز تقديم أكابر مجرميها على قوله: في كل قرية. ولام ليمكروا: لام كي، وهي متعلقة بجعلنا وحذف الممكور به للعلم به.
{ وَمَا يَشْعُرُونَ } أن وباله يحيق بهم، ولا يعني نفي شعورهم على الاطلاق وهو مبالغة في نفي العلم إذ نفي عنهم شعور الذي هو يكون للبهائم.
{ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ } الآية، قال مقاتل: روي أن الوليد بن المغيرة قال: لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر مالاً منك. وروي أن أبا جهل قال: تزاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نرضي به، ولا نتبعه أبداً، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه. فنزلت. والضمير في جاءتهم عائد على الأكابر وتغيية إيمانهم بقولهم: حتى نؤتى دليل على تمحلهم في دعواهم واستبعاد منهم أن الإِيمان لا يقع منهم البتة إذ علقوه بمستحيل عندهم.
وقولهم: { رُسُلُ ٱللَّهِ } ليس فيه إقرار بالرسل من الله تعالى وإنما قالوا ذلك على سبيل التهكم والاستهزاء، ولو كانوا موقنين وغير معاندين لاتبعوا رسل الله تعالى. والمثلية كونهم تجري على أيديهم المعجزات فتحيي لهم الأموات ويفلق لهم البحر ونحو ذلك كما جرت على أيدي الرسل.
{ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } هذا استئناف إنكار عليهم، وأنه تعالى لا يصطفي للرسالة إلا من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالجهة التي يضعها فيها وقد وضعها فيمن اختاره لها وهو محمد صلى الله عليه وسلم دون أكابر مكة كأبي جهل والوليد بن المغيرة ونحوهما، وقالوا حيث لا يمكن إقرارها على الظرفية فتكون مفعولاً على السعة ولا يعمل فيه أعلم، إذ أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به فاحتاجوا إلى إضمار فعل يفسره أعلم تقديره يعلم حيث هكذا. قال الحوفي والتبريزي وابن عطية وأبو البقاء: وما أجازوه من أنه مفعول به على السعة أو مفعول به على غير السعة تأباه قواعد النحو لأن النحاة نصوا على أن حيث من الظروف التي لا تتصرف، وشذ إضافة لدى إليها وجرها بالباء وبفي. ونصوا على أن الظرف الذي يتوسع فيه لا يكون إلا متصرفاً وإذا كان الأمر كذلك امتنع نصب حيث على المفعول به لا على السعة ولا غيرها، والذي يظهر لي إقرار حيث على الظرفية المجازية على أن يضمن أعلم معنى ما يتعدى إلى الظرف فيكون التقدير الله أنفذ علماً حيث يجعل رسالاته، أي هو نافذ العلم في الموضع الذي يجعل فيه رسالته. والظرفية هنا مجاز كما قلنا.
{ سَيُصِيبُ } وعيد شديد.
{ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ } عام في الأكابر وغيرهم والصغار مقابل للأكابر وهو الهوان والذل. يقال منه: صغر يصغر، وصغر يصغر، واسم الفاعل صاغر وصغير.
{ عِندَ ٱللَّهِ } أي في عرصة قضاء الآخرة وقدم الصغار على العذاب لأنهم تمردوا عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكبروا طلباً للعز والكرامة فقوبلوا أولاً بالهوان والذل.
{ بِمَا كَانُواْ } الباء للسبب. وختمها بقوله:
{ يَمْكُرُونَ } مراعاة لقوله تعالى: { لِيَمْكُرُواْ فِيهَا }.