خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
٣٦
وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
٣٧
-هود

تيسير التفسير

{ وَأُوحِىَ إِلىَ نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ } الإِيمان يتعدد من المؤمن فإِنه كلما فعل أَو قال ما يسمى إِيمانا صح الإِخبار عنه أَنه آمن. فالمعنى أَنه لا يصدر إِيمان من قومك إِلا ممن آمن قبل فإِنه يتجدد إِيمانه، وأَما غيرهم فلا يصدر منه إِيمان ولا يتكرر، وأَما قولك إِلا من استمر أَو استعد على الإِيمان ففيه تأْويل لامن فقط دون قوله لن نؤْمن وأَما جعل الاستثناءِ منقطعاً فلا وجه له أَلبتة، لأَن معناه لكن من آمن فيبقى يؤمن بلا فاعل، وقد صح أَيضاً أَن التفريغ لا يقع فى الانقطاع والداعى إِلى التأْويل أَن من آمن لا يتصور إِيمانه لاستحالة تحصيل الحاصل { فَلاَ تَبْتَئِسْ } لا تكن بائِساً متغيراً بالبأْس، نهاه عن أَن يتأَثر بالبأْس وأَمره بالفاءِ وعدم الاكتراث، وكأَنه قيل لا تحزن بلقاءِ هذا المكروه { بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } من التكذيب والإِيذاء، أَو من فعلهم وهو التكذيب والإِيذاءُ والمضارع للاستمرار، أَو بمعنى الماضى، كانوا يضربونه حتى يشرف على الموت أَو يظنوه ميتا فيلقوه فى المزبلة ويضربونه كذلك ويلقونه فى ثوب ويلقونه فى بيته ويرجع يدعوهم، وبلغوا من الكفر به أَنهم يوصون بالكفر به حتى أَنه يجىءُ الرجل بولده فيقول لا يغرقك هذا فيقول يا أَبى ناولنى العصا فيضربه بها فيشجه وقد يسيل دمه، وقد يضربه ضربة يظهر بها عظم رأَسه كان ذلك فقال يا رب قد ترى ما فعلوا فاهدهم أَو صبرنى إِلى أَن تحكم فيهم، فأَوحى الله تعالى إِليه: لم يبق فى صلب ولا رحم من يؤْمن بك، وأَقنطه من إِيمان من لم يؤْمن وسلاه وبشره بقوله:
{ وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } إِلخ، والأَمر للوجوب على ظاهره وحفظه لنفسه ولمن آمن معه واجب، والقول بأَنه للإِباحة وأَنه لو شاءَ لم يصنعه فينجيه الله ومن معه بما شاءَ كجود الماءِ لهم فى حقهم خاصة، وكجعل سفينة من ماءٍ تجرى فى الماءِ، خطأٌ لا دليل له مع أَن الله تعالى قادر على ذلك كما جعل الماءَ دائِراً كالحائِط بمن آمن ولم يحظر هناك، والفلك السفينة، وأَعيننا بحفظنا عن إِفساد قومه لها وعن الزيغ فى صنعها، أَو بمر أَى منا أَى بعلم منا لا تخفى عنى مصالحك، وذلك أَن العين يكون بها الحفظ والعلم تعالى الله عن صفات الخلق، وعرف الفلك مع أَنه لم يتعارف عندهم لكونه معروفاً عنده بالوحى قبل، كما يناسبه قول بأَعيننا ووحينا، فأَل للعهد فإِنه أَوحى إِليه أَن ينجيه فى شىءٍ بتعليم الله يسميه فلكا، وقيل للجنس إِذ لم يعرف الفلك، ولم يأْمره الله إِلا بصنعه هكذا علمه كيف يصنع، وروى الطبرى والحاكم عن عائشة عنه صلى الله عليه وسلم أَن نوحاً غرس فى آخر عمره شجرة بأَمر الله تعالى فذهبت كل مذهب وقطعها وجعل يعملها سفينة فقالوا له إِنها سفينة فى أَرض بعيدة عن الماءِ، وهذا نص فى أَنهم عرفوا السفينة وأَنها كانت قبل نوح، وقيل أَول من عملها نوح ولا تعرف قبله وعليه الجمهور والله أَعلم بذلك، والباءُ للملابسة، وجمع العين مبالغة فى العلم والحفظ، لأَن الحفظ والمراقبة بلا عين أَبلغ منهما بعين أَو عينين، وفى ذلك استعارة تمثيلية شبه حفظه أَو مراقبته بحراسة الحراس بإِمعان العيون وكمال التيقظ فى حفظ الشىءِ المحروس بحيث لا يظفر قاصده ولا يرام طالبه لكمال بأْسه عن تناول حراسه، وقيل أَعيننا ملائِكتنا تشبيها لهم بالأَعين للحفظ، وقيل أَعيننا رقباؤُنا على سبيل التجريد بأَن جرد من نفسه تعالى رقباءَ، وهو أَن ينزع من الشىءِ آخر مثله فى صفته مبالغة فى كمالها، والصواب منع ذلك فى حق الله سبحانه لخروجه عن الأَدب فى حقه، وإِنما يقتصر على ما ورد مما يجوز ظاهره كعين الله ودمه وليس هذا الوارد تجريدا، وأَما التجريد فى حقه تعالى بقوله:

أَفات بنو مروان ظلما دماؤنا وفى الله إِن لم يعدلوا حكم عدل

فلعدم فقه قائله أَو يقدر مضاف أَى بدل حكم عدل { ووَحْيِنَا } إِليك كيف تصنعها؟ عن ابن عباس: لم يدر كيف يصنعها، فأَوحى الله إِليه عز وجل أَن يصنعها مثل جؤْجؤَة الطائِر أَى صدره، أَى اصنعه حال كونك أَو كونه محفوظا عن إِفساده أَو عن الزيغ فى عمله وعدم إِتمامه ومتعلماً عمله من وحينا. أَتاه جبريل بعد مقاساة الشدائِد منهم يضربونه حتى يكسر ويلقونه ويأْتيهم من الغد يعظهم ويقول: اللهم اهدهم فإِنهم لا يعلمون، وكانوا يوصون أَولادهم قرنا بعد قرن على مخالفته فكل قرن أَشد عليه من قرن قبله حتى شكا إِلى الله" { إِنى دعوت قومى ليلا ونهاراً } "[نوح: 5] إِلى قوله " { رب لا تذر } "[نوح: 26] إِلخ فقال له إِن ربك يأْمرك أَن تصنع الفلك. فقال: كيف أَصنع ولست نجاراً، فقال: إِن ربك يأْمرك أَن تصنع الفلك بأَعيننا، فأَخذ القدوم وأَخذَ ينجر ولا يخطىءُ، ويروى أَن جبريل يعلمه، ويروى أَن الملائِكة تعلمه وأَن الله عز وجل أَمره أَن يطليها بالقار ولا قار فى الأَرض ففجر الله له عين القار. { وَلاَ تُخَاطِبْنَى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا } من قومك، ظلموا أَنفسهم والمؤمنين وإِياك بالإِشراك وغيره من المعاصى لا تدعنى باستدفاع العذاب عنهم، بالغ فى إِثبات إِهلاكهم كأَنه قيل: لو دعوتنى مع منزلتك عندى فى دفع العذاب لم أَستجب لك كقوله تعالى: " { ذرنى ومن خلقت وحيداً } "[المدثر: 11] إِلخ، وإِلا فهو داع عليهم بالهلاك، وقد يقال لهم علم الله منه رقة البشر تدركه حين يدركهم الهلاك، فيدعو لهم فنهاه عن الدعاءِ كقوله تعالى " { ولا تأُخذكم بهما رأْفة } "[النور: 2] نهاه الله تعالى أَن يخاطبه فيهم ولو لم يتكلم له فى إِنجائِهم بعد إِقناطه من إِيمانهم كما تقول: دعونى أَضربه ولو لم يمنعوك قبل. وقيل المراد بالذين ظلموا زوجه واعلة وابنه كنعان يدعو لهما فنهاه الله عز وجل، وهو قول ضعيف، ووجهه أَن الدعاءَ لهما أَنسب به مع تبادر أَنه دعا لهما أَو أَراد أَن يدعو من قوله تعالى: { ولا تخاطبنى } إِلخ. وظاهر هذا جواز أن يقال خاطبت الله فإِنه إِذا قيل لا تضرب عمرا جاز أَن يقال ضربت عمرا، وكذا فى كل نهى، ونص أَصحابنا على عدم جوازه { إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ } اسم مفعول الاستقبال أَو للحال تنزيلا للمستقبل منزلة الحاضر المشاهد أَو الماضى لتحقق الوقوع أَو مضيه بمعنى محكوم عليهم فى الأَزل أَو فى اللوح بالإِغراق ولا يرد قضائِى، وروى أَنه لما قال له اصنع الفلك إِلخ قال يا رب، أَين الماءُ؟ فقال إِنى قادر.