خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ
٤٢
قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ
٤٣
-هود

تيسير التفسير

{ وَهِى تَجْرِى بِهِمْ } حال حذف عامله وصاحبه، أى فركبوا وهى تجرى بهم، وهى حال مقدرة، وشهر أَن الجملة لا تكون حالا مقدرة، وإِنما قلت لأَنها وقت إِيقاع الركوب قارة { فِى مَوْجٍ } متعلق بتجرى وهو مياه مضطربة مترافعة كل موجة كالجبل كما قال { كَالْجِبَالِ } نعت موج ولا يثبت ما قيل أن الماءَ طبق بين السماءِ والأَرض وجرت فى وسطه وعلى تقدير صحته، الله قادر أَن يكون الموج داخل الماءِ وأَن يجريها فيه أَو ذلك قبل التطبق، والمشهور أَن الماءَ علا على كل جبل أَربعين ذراعا، وقيل خمسة عشر ذراعا، وروى أَن الله عز وجل أَرسل الماءَ أَربعين يوما وليلة نصف الماءِ من الأَرض ونصف من السماءِ، ففتحنا أَبواب السماءِ بماءٍ منهمر وفجرنا الأَرض عيونا، وروى أَن امرأَة أَحبت صبيا لها حبا شديدا. فارتفعت به إلى الجبل، فما زال يرتفع فترتفع هى حتى بلغ الماءُ أَعلى الجبل، فلما بلغ الماءُ رقبتها رفعته بيديها فأَغرقهما الماءُ. فلو رحم الله أَحدا منهم لرحمها وصبيها، وهذا ينافى ما شهر أَن الله أَعقم أَرحام نسائِهم أَربعين عاما، ليغرقوا على أَبلغ العقل كافرين. ولعله لم يصح هذا، أَو لم يصح شأْن الصبى أَو خصت بالولادة وأَلغز بعضهم فى السفينة:

مكسحة تجرى ومكفوفة ترى وفى بطنها حمل على ظهرها يعلو
فإِن عطشت عاشت وعاش جنينها وإِن شربت ماتت وفارقها الحمل

أَى إِن دخلها الماءُ غرقت ومات من فيها { وَنَادَى نُوحٌ } قبل أَن ينقطع الطريق إِلى الفلك أَو مطلقا كقدرة الله أَن يحمله على الماءِ إِليها والأَول أَولى وهذا قبل الركوب فيها { ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ } وهو ابنه كنعان ابن امرأَته الخائِنة فى دينه، وقيل ربيبه سماه ابنا وهو ضعيف، ومعزل اسم مكان ميمى، أَى فى موضع عزل عن السفينة، وذلك حقيقة، وقيل فى موضع عزل عن دين نوح، وذلك الموضع هو دين الكفر سماه موضعا مجازا أَو هو مصدر ميمى، أَى فى عزل عن دين نوح وقيل كان فى موضع عزل لم يتناوله الخطاب باركبوا على أَنه لم يكن عند أَبيهِ وإِخوته وقومه، وكان ينافق بإِظهار الإِسلام فظنه مؤمنا وإِلا فإِنه لا يجب نجاته، ومعنى لم يتناوله الخطاب أَنه لا يسمعه، وقيل كان يجانب الكفار ولا يكون معهم ليظن أَبوه أَنه مؤمن، أَو طمع أَن لا يدخل فى إِجمال من سبق عليه القول. وقد يمكن أَن يناديه لغلبة الشفقة على الولد وحبه بحيث لا يملك نفسه، أَو ظن أَنه يسلم حين رأَى الغرق والهول، أَو معنى اركب معنا اسلم لأَن الإِسلام سبب للكون وملزوم له { يَا بُنَىَّ } الأَصل بنيوى قلبت الواو وهى لام الكلمة ياءً وأُدغمت فيها ياءُ التصغير وحذفت ياءُ الإِضافة ودلت عليها الكسرة { ارْكَب مَّعَنَا } معشر المسلمين فى الفلك، ولم يذكره لحضوره ولأَنه لا مركب حينئِذ إِلا هو { وَلاَ تكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ } فى الدين والانعزال عن السفينة، وكأَنه قيل فبم أَجاب فقال:
{ قَالَ سَآوِى } أَلتجىءُ { إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاءِ } لعلوه فلا أَغرق وذلك إِسناد إِلى السبب، والأَصل أَعتصم به من الماءِ، ولا يدرى أَن ذلك ماءُ الغضب لا ينجو منه المغضوب عليه بالصعود فى الجبل، ولم يستحضر أَنه إِن نجا من الغرق فما يأْكل فى الجبل حتى يزول الماءُ مع أَن ذلك الماءَ ماءُ غضب لا ينجو من العطش وهو كافر إِجماعا، لكن صعوده إِلى الجبل لا يلزم أَن يكون صريع عناد لاحتمال أَنه أَراد الجبل لتوهمه أَنه أَنجى من السفينة أَو لكراهة الاحتباس فى السفينة. { قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ } بمعنى أَن اليوم يوم شدة لا تجاوز فيه، فليس قيدا يحترز به عن أَن يكون راحم غير الله فى غير اليوم، ولا أَن يرحمهم الله بعد ذلك اليوم، وأَمر الله إِهلاكه بالإِغراق وهو الأَمر فى قوله تعالى
{ { حتى إِذا جاءَ أَمرنا } [هود: 40]، واليوم خبر وجاز ولو كان إِخبار بزمان عن جثة ولا سيما لأَنه أَفاد أَن عاصم لا نسلم أَنه جثة بل أَعم منها، ومن أَمر متعلق به أَو متعلقه، ولقد قدر الخبر محذوفا أَى موجود وعلق اليوم ومن بعاصم لنون عاصم ونصب وقيل يتعلقان به وبناؤه باق، وقيل معرب ولم ينون للتخفيف ولشبه الإِضافة والخبر مقدر، كما رأَيت وأُجيز كون اليوم نعتا لعاصم على حد ما مر فى الإِخبار به { إِلاَّ مَنْ رَّحِمَ } الله والاستثناءُ منقطع لأَن من رحم الله ليس من جنس العاصم. بل معصوم أَى لكن منرحمه الله يعصمه الله، وذلك بالإِسلام كأَنه قيل: لا عاصم إِلا مرحوم والمرحوم ليس عاصما، وكذا يكون الاستثناءُ منقطعا إِن قلنا عاصما بمعنى معصوم، فإِن من رحم هو الله ولا يتصور أَن يكون معصوما فإِنه العاصم، ويجوز أَن يكون الاستثناءُ متصلا بأَن يكون عاصم للنسب، أَى لا ذا عصمة إِلا الله الراحم، أَو على أَصله أَى لا عاصم إِلا الله الراحم، وهو أَولى، أَو لا عاصم بمعنى معصوم فكأَنه قيل لا معصوم إِلا المرحوم الذىرحمه الله ، ويدل له قراءَة بتاءِ رحم للمفعول كدافق بمعنى مدفوق، أَو لا مكان عاصم إِلا مكان من رحمة الله وهو السفينة، فيكون ردا لقول ابنه لى مكانا عاصما غير السفينة وهو الجبل رد إِفراد، وحاصل ذلك أَن عاصم على أَصله أَو للنسب أَو بمعنى مفعول، ومن رحم هو الله أَى الله الراحم لغيره، أَو من رحم هو المخلوق أَى إِلا المخلوق الذىرحمه الله ، وضمير رحم عائِد إِلى الله، والهاءُ المحذوفة الرابطة تعود إِلى المخلوق والحاصل والزيادة لا عاصم لكن من رحم الله معصوم بالله، ولا ذا عصمة أَى معصوم إِلا منرحمه الله أَو معصوم إِلا الراحم، أَى لكن الراحم يعصم ولا عاصم إِلا مكان من عصمه الله تعالى وهو السفينة، أَو لا معصوم إِلا مكان منرحمه الله ، وهو الفلك فينجو من فيه أَو لا عاصم اليوم أَحدا أَو لأَحد إِلا منرحمه الله أَو لمنرحمه الله . { وَحَالَ بَيْنَهُمَا } بين نوح وابنه، وهذا لقربه أَولى من أَن يرجح الضمير لابنه والسفينة، ووجه هذا أَنها محل الامتناع فساغ اعتبارها، وكذا يجوز أَن يراد بين ابنه وبين الجبل بأَن لم يتصل الجبل بل غرق قبل صعوده، كما روى أَنه على فرس معجبا بنفسه بطرا فجاءَته موجة فأَغرقته قبل تمام جوابه كما قال الله عز وجل، وحال بينهما { الْمَوْجُ فَكَانَ مِن الْمُغْرَقِينَ } بالماءِ.