خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١١١
-النحل

تيسير التفسير

{ يَوْمَ } يوم القيامة { تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا } يوم متعلق برحيم، أو يقدر لذكر يوم الخ لنفسك لتتسلى، ولهم ليرتدعوا عن الشر، ومعنى خصام النفس عن نفسها خصام المعنى القائم بالجسم من الروح والإدراك عن بدنه، ولا يحسن أن يقال النفس الأولى للذات، فإِن البدن لا يجادل، بل المعنى الحى الناطق، وعبارة بعض النفس الأولى مجموع الذات، وصاحبها يوم يأتى كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيرها من ولد أو والد أو قريب أو صاحب، تزفر جهنم فيخر كل حى على الأرض حتى الملائكة على ركبهم، ويقول الخليل وغيره: رب لا أسألك إِلا نفسى.
ويروى إِلا سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم فإنه يقول: أمتى أمتى، وعبارة بعض: النفس الأولى ذات الإنسان وحقيقته، والثانية بدنه، وعبارة بعض أن الأولى الشخص بأجزائه، فالأجزاء فيه ملحوظة، والثانية ما يؤكد به، ويدل على حقيقة الشئ وهويته، والأجزاء فيها غير ملحوظة، فمعنى كل نفس كل أحد، والتحقيق ما ذكرته أولا، ثم رأيت بعضاً أشار إليه إذ قال: الأولى الروح، والثانية البدن، والمجادل المدرك وهو الروح لا البدن، وقيل: الثانية الأولى أعيدت لئلا يعمل عامل فى ضميرين لواحد؛ والأصل تجادل عنها، وأنت خبير أن ذلك العمل غير ممنوع إذا كان أحد الضميرين بالحرف نحو:
" { وهُزِّى إِليكِ } " [مريم: 25] والمفاعلة هنا للمبالغة أى تخاصم عن نفسها خصامًا شديدًا إلا للمبالغة، وعن المجاوزة، لأنها تميل عمن يضرها، وتعرض عنه، لا كما قيل إنها للابتداء. أما جدال الكفار فمثل قولهم: هؤلاء أضلونا وما كنا مشركين، ربنا أطعنا سادتنا، وأما جدال الأبرار فمثل ابتليتنا بالمرض والفقر، ويا ربنا منعونا عن الخير، وقيل: إنما يعتذر الكفار، ورد بعموم كل نفس، والأصل حمل اللفظ على ظاهره ما لم يتعين التأويل بدليل.
وكذا فى قوله: { وَتُوَفَّى كَلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ } من شر أو خير، والمقصود الجزاء، فسمى باسم سببه وهو العمل، وهو ملزومه، وذلك لكمال الاتصال بين الجزاء والعمل، وأظهر ولم يقل: وتوفى ما عملت بالإضمار لزيادة التقرير للإيذان باختلاف وقتى المجادلة والتوجيه إذ لا خصوصية للظاهر، ولا للضمير بذلك الاختلاف.
{ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } لا ينقص من ثواب المؤمن، ولا يزاد على الكافر ما لم يعمل، ومن عمله ما أمر به غيره من شر، أو نهى عنه من خير، ويناسب العموم أنه ذكر قبل ذلك المؤمنين والكافرين، فلا حاجة إِلى دعوى أن المؤمن لا يعتذر، والاعتذار فى موطن من مواطن القيامة، والمنع منه فى موطن آخر، فلا منافاة بين آية إِثبات الاعتذار من الكفار مثلا، وآية نفيه قال عكرمة: وهو عبد من سبى المغرب اشتراه ابن عباس أو أهدى إليه فأعتقه.
قال ابن عباس: لا تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد، فتقول الروح: يا رب لم تكن لى يد أبطش بها، ولا رجل أمشى بها، ولا عين أبصر بها، فضعِّف عليه العذاب. ويقول الجسد: يا رب أنت خلقتنى كالخشبة ليس لى يد أبطش بها، ولا رجل أمشى بها، ولا عين أبصر بها، فجاءت هذه الروح كشعاع الشمس، فيها نطق لسانى، وبها أبصرت عيناى، وبها مشت رجلاى، فيضرب الله لهما مثلا أعمى ومقعدًا فى بستان ثمار، والأعمى لا يبصر الثمر، والمقعد لا يتناوله، فحمل الأعمى المقعد فأصابا الثمر، فغشيهما العذاب، بمعنى تناولا المعاصى الشبيهة بالثمار فى الميل إِليها، أو تناولا الطاعة الشبيهة بها فَنَجَوَا.
والروح والجسد لم يتناولا معًا بل ناول بعض بعضا فهلكا، والمتبادر هو الأول، وكذا فى قول القرطبى: أن المقعد نادى الأعمى احملنى آكل وأطعمك ففعل، فأصابا من الثمر، فعلى مَن يكون العذاب؟
قالا: أى الروح والجسد: عليهما أى على الأعمى والمقعد.
قال أى الله: عليكما جيمعًا العذاب أى الروح والجسد، وهذا الحديث كالنص فيما فسرت به النفس أولا.