خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ
١٢٥
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ
١٢٦
وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ
١٢٧
-النحل

تيسير التفسير

{ ادْعُ } يا محمد الناس كلهم { إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ } دينه، ولا يهمك مخالفة اليهود والنصارى وقريش، وقد نسخ السبت بالأحد، ونسخ الأحد بالجمعة، ولا سبت ولا أحد بعد بعثتك، بل الجمعة على الكل والقرآن لا التوراة ولا الإنجيل إلا ما لم يخالف القرآن.
{ بِالْحِكْمَةِ } القرآن أو الدلائل القطعية، ومنه القرآن وهو أصلها، فإنه قول موضح للحق كما قيل: الحكمة الدليل الموضح المزيل للشبهة، كما قال أبو حيان: الحكمة الكلام الصواب القريب، الواقع فى النفس أجمل موقع وهو حق لا إشكال فيه، وما قيل: إن الحكمة إتقان العمل، وإتقان العمل غير معروف، بل هى إتقان العلم وضد السفه، ووضع الأشياء فى مواضعها، وقيل: الحكمة هنا النبوة والرسالة.
{ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } الخطاب المقنع ولو بما هو ظنى عند المخاطب يتوصل به إلى القطعى، أو هى الترغيب والترهيب على وجه يتبيَّن به أنك تريد نفعهم، والنصح لهم، أو الرفق بترقيق القول، ويقال هنا: ثلاثة الكاملون علما وعقلا وبصيرة، يدعوهم بالحكمة وهى: الحجج القطعية يدركونها، وينفعون الناس بها، وينتفعون، وأصحاب النظر السليم، وهم الغالب، وهم دون هؤلاء يدعوهم بالموعظة الحسنة.
القسم الثالث أصحاب جدال وعناد، وفيهم قوله تعالى: { وَجَادِلْهُمْ بِالّتِى } بالمجادلة التى، أو بالطريق التى { هِىَ أَحْسَنُ }، وهى ما فوق الموعظة فى الشدة، ودون الحجج التى لا يدركونها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أُمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس على قدر عقولهم" ومن هذا قول العلماء: كلم الإنسان على قدر عقله، لتسلم منه، ويسلم منك، فيجادل المعاندين فى رفق بمقدمات تسهل لهم، ويقبح عندهم إنكارها، وأحسن باق على التفصيل، ويجوز خروجه بمعنى جادلهم بما هو حسن، ولا تقابلهم بمثل ما يفعلون من الاحتيالات الفاسدة القبيحة، فإما أن يؤمنوا، وإما أن لا يزيد شرهم.
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } المراد الحصر فى الموضعين، فإن علم الخلق كلهم دون علمه، وكل ما علمت يا محمد من أحوال قومك، فإن الله أعلم به منك، فلا تقلق وما عليك إلا ما يطابق علمك منهم، ويجوز الخروج عن التفضيل، أى ربك عالم بهم، وهو مجازيهم، وهو مولاك ومولى لهم فى الخير، ولا بد من الحصر، فإنه تعالى عالم لا غير عالم، واسم الرب لمزيد اللطف به صلى الله عليه وسلم تذكير الإحسان، فكما أحسن الله إليك فيما مضى يحسن إليك فى المستقبل بالنصر والجزاء والستر.
والخطاب تلويح بعد الكفار عن مقام اللطف، وذكر فى الكفار ضل بصيغة الفعل إشارة إلى أنهم غيَّروا الفطرة، كل مولود يولد على الفطرة، بدَّلوها بالكفر، وذكر فى المؤمنين لفظ المهتدين، وهو اسم للدلالة على أنهم استمروا على الفطرة، ولو فصلها كفر لأنهم رجعوا إليها، واستمروا، وربما كانت فيهم ولم تفصل بالكلية حتى رجعوها، وقوم من ضل على المهتدين، لأن الكلام وارد فيهم، وعليك البلاغ، وقد بلغت وإليه هو المجازى، ولا تلح عليهم بعد مرة إبلاغ أو مرتين، وليس عليك الهدى، بل الله هو الهادى، ولما نزل القتال وقتل حمزة، ومُثِّل به بقطع أنفه وأذنيه، وذكره وأنثييه، وثقب بطنه ثقبا واسعاً، أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستقيد منهم سبعين ويمثل بهم، فأنزل الله عز وجل قوله:
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ } إلخ وأعتق عن يمينه، والآية دلت على أن حكم الجماعة للقاتلين حكم القاتل منهم، لأنه قاتل بهم، فكأنهم قاتولن، كما قال عمر رضى الله عنه فى امرأة قتلت فى اليمن: لو تمالأ عليها أهل صنعاء لقتلتهم، فجاز للنبى صلى الله عليه وسلم أن يمثّل بقتيل من المشركين، ولو لم يكن هو الذى قتل حمزة ومثّل به، والقتال فى المدينة، فالآيات الثلات مدنيات، جعلهن فى سورة مكية، وهى محكمة، وهو الصحيح.
وقيل: نزلت فى مكة مطلقة لا فى شأن حمزة فتكون تمهيداً له، ويعترض بأنه يحتاج إلى مناسبة لذكرها هنا. وعن ابن عباس: أباح الله له صلى الله عليه وسلم أن يقاتل من قاتله، بل أوجب، ولا يبدأ بالقتال، ثم نسخ إلى البدء بالقتال، وحمزة رضى الله عنه أكبر منه صلى الله عليه وسلم بعامين، وأشار بأن إلى أن الأصل عدم المعاقبة، إذ لم يقل: وإذا عاقبتم، والفعل مستعمل فى الإرادة.
والمعنى وإن أردتم معاقبة من أساء إليكم، والفعل مستعمل فى معناه الظاهر، وفى إرادته وفى الاقتصار عليه كقوله تعالى:
" { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } " [الأنعام: 119] أى ألا تنتصروا على الأكل مما ذكر اسم الله عليه، وكلوا مما ذكر اسم الله عليه، أى اقتصروا على الأكل مما ذكر اسم الله عليه، وفى تأثيره كقوله: " { ولكن الله رمى } "[الأنفال: 17] أى أوصله وآثره، وقوله تعالى: " { إنَّما تُنذر مَن اتَّبع الذكر } " [يس: 11] أى يؤثر إنذارك وفى المشاكلة المشابهة كقوله: { ما عوقبتم به } فإن الإساءة أولا ليست معاقبة، ولكن تشابهها صورة فهو استعارة للشبه الصورى، ومشاكلة لما معه من قوله: عاقبتم وعاقبوا، وذلك من تسمية السبب باسم المسبب.
وفيه تلويح باستبعاد الإساءة حتى إنه من شأنها أن لا تكون، وإنما تكون المعاقبة، وقوله: هو عائد إلى المصدر المعلوم من صبرتم، كأنه قيل للصبر والسلام للابتداء، وقعت فى جواب القسم المقدم على الشرك، أى والله لئن صبرتم.
ومعنى كونه خيراً للصابرين أنه منفعة لهم للثواب فى الآخرة والنصر فى الدنيا، والثناء الحسن، وقطع مادة المتنة والسوء، أو خير اسم تفضيل، أى هو أفضل لهم لذلك من الانتقام، وأنه تلويح بأن من شأن النفس أن لا تصبر، فلم يقل: وإذا صبرتم فهو والله خير للصابرين، وبعد ما فضل الصبر قال: واصبر بالأمر البدنى، بل الواجبى فى حقه صلى الله عليه وسلم، لأن الانتقام فى حق الأنبياء مما يعد ذنباً.
{ وَمَا صَبْرُكَ إلاّ بِاللهِ } بتوفيقه، فلم يقتل بعد ذلك سبعين انتقاما، بل الله كسائر جهاده، ولم يمثل بواحد توفيقا من الله سبحانه له، وقد أكد للصبر فى حقنا أيضاً بالقسم، ولفظ هو وخير والتعبير بأن، ووضع الظاهر موضع المضمر إذ لم يقل لهو خير لكم.
{ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } حزن على عدم إيمان الكفار مع شدة إيذائهم له، وعنادهم لشدة حبه لدين الله وإنفاذه، ورسوخ الرحمة كما خير فى إهلاكهم فأبى وقال: أرجو أن يؤمن منهم مؤمن أو يلد مؤمنا، فقال الله:
" { لعلك باخع } " [الشعراء: 3] إلخ ونحو ذلك أمراً له أن يتسلى عنهم، أو على بمعنى اللام، وقيل: لا تحزن على قتلى أحد من المسلمين، وفيه تفكيك الضمائر، فإن الضمير فى قوله تعالى:
{ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقِ مِمَّا يَمْكُرُونَ } للكفار لا بقتل أحد من المسلمين، وهذا من جملة تسليته صلى الله عليه وسلم فى شأن عمه حمزة، ووعد بالنصر، ومقتضى الظاهر، ولا يكن فيك أى فى صدرك ضيق من كيدهم، فغلب الكلام لنكتة هى أنه إِذا اشتد الهم أحاط بالمهتم إحاطة الظرف بالمظروف، وما مصدرية، ولا حاجة إلى جعلها اسماً بمعنى من مكرٍ يمكرونه، أو المكر الذى يمكرونه وهو مصدر، ويجوز أن يكون وصفاً مشدداً لوسط مخفف.