خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ
٦٦
-النحل

تيسير التفسير

{ وإِنَّ لَكُمْ فِى الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً } انتِقالا من جهل إِلى علم، والعبرة العبور وأصله المشى فى الماء من جانب إِلى جانب، أو على نحو فنظرة مجاز فى غير ذلك، وقيل حقيقة فى الكل، ولا شك أنه ليس فى الأنعام نفس انتقال الناس إلى العلم إلا توسعا، أو على التجريد البديعى، وليس فى الأنعام عبرة، بل هى نفسها عبرة، فبولغ فى ذلك حتى ولد منها ما هو عبرة هذا كله قبل قوله:
{ نُسْقِيكُمْ } إِلخ، ولك أن تقول أطلق المسبب وهو العبور على سببه، وهو ما به العبور، وهو السقى من لبن فيها، من بين فرث ودم، فقوله: نسقيكم إِلخ مستأنف للبيان كأنه قيل: ما هى؟ فقال: نسقيكم أو بيان للنكرة بالمعرفة التى هى مصدر مؤول نسقيكم على تقدير حرف المصدر، الذى حذف ورفع الفعل بعد حذفه، أى سقيًا لكم أو ينزل مرفوعًا منزلة الاسم كما هو فى قول تسمع بالمعيدى إلخ، وما ذكرته من الإطلاق مجاز فى الأصل، وهو حقيقة عرفية فى اللغة لا حقيقة فى أَصل اللغة.
{ مِمَّا فِي بُطُونِهِ } أَى بطون الأنعام، وذكر ضميره، وأفرد لأنه اسم جمع كرهط، وما كذلك يذكر باعتبار اللفظ، ويؤنث باعتبار المعنى كما فى
" { قد أفلح } "[المؤمنون: 1 ، الأعلى: 14، الشمس: 9] ولو كان جمعا كما هو قول لتعين التأنيث، هكذا مما فى بطونها، وقيل: ذكر باعتبار ما ذكر على أنه جمع نعم، وقيل: باعتبار معنى البعض، وهو الإناث فإِن ذكورها لا لبن لها، أو باعتبار الواحد فإن العبرة فى كل واحد على حدة، وهذا الواحد الحيوان الذى هو أنثى من الأنعام، والذى فى كتاب سيبويه أن الأنعام اسم مارد على وزن أفعال كأخلاق وأسمال للثوب البالى، وأكياس للثوب المخصوص الذى غزل غزله مرتين، وفى المثل: عليك بالثوب الأكباش، فإنه من ثياب الأكياس وأعشار لبرمة مركبة من حجارة، وقال الكسائى: أفرد لتأويل ما ذكر، وذكر بعض أن جمع غير العاقل نحو أفراده وتذكيره بتأويل الجمع وتأنيثه بتأويل الجماعة.
{ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } من الأولى للتبعيض، لأن اللبن بعض ما فى بطنها، وإن جعلت للابتداء كالثانية، فالثانية ومدخولها بدل اشتمال من الأولى، ومدخولها والرابط محذوف أى من فرث ودم فيه.
{ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشّارِبِينَ } فلا يختنق أحد باللبن، ولو اختنق لم يشكل، لأنه فى الجملة سائغ، والفرث ما أكلته الدابة، وهضم ما دام فى البطن، وإذا خرج فروث، وقبل الخروج أوث، بمجاز الأول وبعده فرث بمجاز ما كان عليه الشئ، ومن للابتداء متعلق بنسقى، ولبنًا مفعول ثان لنسقى، ومعنى خالصاً لا يخالطه بعض فرث أو بعض دم بنفسه، أو لونه أو ريحه أو طعمه، مع أنه بينهما، ولا شئ من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه، وإن وجد فيه الدم غالبًا نجس اللبن سبل شقيق عن الإخلاص فقال تمييز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من بين فرث ودم، ومعنى سائغًا سهل المرور فى الحلق، وإذا هضم الطعام فصافية يذهب إلى الكبد، والكثيف ينزل إلى الأمعاء، وما جبذ إلى الكبد يصير ماء بهضم ثان، ويخلط بصفراء تذهب إِلى المرارة، وبسوداء ذهب إِلى الطحال، وبزيادة المائية تذهب إلى الكلية، ومنها إلى المثانة.
وأما الدم فيدخل فى العروق النابتة من الكبد فيحصل هضم ثالث، وبين الكبد والضرع عروق وينصب الدم منها إلى الضرع، فيقلب الله عز وجل الدم لون الضرع، وذلك هو معنى من بين فرث ودم، وإلا فلا يرى أحد فى الكرش مثلا دما ولا لبنا فمعنى البينية التولد منهما، لا كما قيل إن معنى الآية أن الثلاثة فى موضع واحد، الفرث أسفل، والدم أعلى، واللبن بينهما، ولو تولد الدم فى أعلى المعدة، لكان الحيوان يعنى الدم لا أن يقال يستحيل الدم إلى لون القئ عند خروجه، فتبقى الآية على ظاهرها، وهو أولى.
ألا ترى أنه يذبح الذكر ولا توجد النطفة فى بيضته، ولا يوجد الدم فيمن مات حتف أنفه فى لحمه، كذا قيل، أو يقال: المراد أن أوسطه يكون مادة اللبن، وأعلاه مادة الدم، وذلك أن ذلك لا يجتمع فى الكرش أو المعدة بل الكبد فيجد صفاوة الطعام ويمسكها حتى تهضم فيها هضما ثانيا، فتحدث أخلاط أربعة معها مائية فتميز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من الصفراء والسوداء، ويدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال، ثم يوزع الباقى علىالأعضاء بحبسها، فيجرى إلى كل واحد حقه على ما يليق بقدرة العزيز الحيكم.
وإن كان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء الرطوبة والبرودة على مزاجها، فيدفع الزائد أولا إِلى الرحم للجنين، فإذا انفصل انصب الزائد أو بعضه للضرع، فيبيض بمجاورة لحومها البيض، فيصير لبنا أبيض، والمنفذ ينطبق من الإنسان والحيوان، فحين كمال الهضم انفتح المخرج لخروجه.
وأما ما قيل من أن بعض من يوثق به شاهد خروج الدم بعد اللبن فى مبالغة الحلب فلا دليل فيه، لإمكان أن يكون، فحصول الجرح بالحلب الشديد والتثنية على ظاهر الآية مجازبة بمعنى أنه يحصل اللبن بهما.