خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً
١٨
-الكهف

تيسير التفسير

{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا } جمع يقظ بكسر القاف كنكد وأنكاد، أو بضمها كعضد وأعضاد { وَهُمْ رُقُودٌ } جمع راقد، كما نص ابن مالك على صحة جمع فاعل على فعول، فلا حاجة إلى جعله مصدراً بمعنى الوصف، أو إلى تقدير مضاف ومعناه نوام، وقيل: موتى، شبَّه نومهم بالموت كقوله تعالى: " { مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مرقدنا } "[يس: 52] والأول أولى، والمعنى أنك تظنهم لو رأيتهم غير نائمين أو غير موتى لانفتاح عيونهم، وشدة نظرها، بحسب صورتها، وهم لا ينظرون بها، والنبى صلى الله عليه وسلم لا يظنهم أيقاظاً مع علمه بأَنهم رقود، لكن المراد أنه يراهم بصورة الأيقاظ، أو لو رآهم قبل علمه بعدم يقظتهم، أو الخطاب لمن يعلم به لو رآهم.
{ وَنُقَلِّبُهُمْ } وكلبهم { ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } يقول لتقلبهم كن فيكون، أو تقلبهم الملائكة، وروى أن أهل تلك الجهة يقلبونهم، ويقلمون أظفارهم، لو لم يقلبهم لأكلتهم الأرض، كما قال ابن عباس: والله قادر أن لا تأكلهم بلا تقليب، ولكن يجرى الله عز وجل غالب الأمور على أسباب، كما يجمع صلى الله عليه وسلم ماء قليلا، أَو يأتى ماء قليلا، أو يجمع طعامًا قليلاً فيبارك فيه فينمو، ولو شاء الله لخلق له كثيراً بلا جمع.
قيل: أو تقليبهم جرياً على عادتهم فى النوم من التقلب عن جنب إلى جنب، وذلك تشريف لهم، والتقليب مرة فى كل تمام ستة أشهر فيما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما، وقيل: يوم عاشوراء فى كل سنة، وقيل: فى تسع سنين، ولا يخفى أن المضارع للتجديد، وذات ظرف أى وقع التقليب فى جهتهم اليمنى إلى اليسرى، وفى اليسرى إلى اليمنى.
{ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } الواو للحال، واسمه قطمير، وعن مجاهد قطمور، وقيل: ثور، وقيل: كلب تبعهم، وقيل: ريان، وهو أصفر اللون، وقيل: أسمر، وقيل: كلون السماء، وقال رجل من أهل الكوفة: رأيته أحمر كأنه ثوب إنجابى.
قال قومنا: إنه رجل لا يتهم بالكذب، وإن اسمه عبيد، وقيل: فيه نمرة بيضاء، ونمرة سوداء، وهو لواحد منهم تبعه فطردوه فأنطقه الله: إنى مؤمن ومحب لأحباب الله، وقيل: لراع مروا به مع غنمه فاتَّبعهم الراعى إيمانا بالله، إِذ أخبروه بقصتهم، فتبعه كلبه فطردوه، ورفع يديه ودعا فأَنطقه الله بذلك، وبأنى لا أضر بل أنفعكم إِذا رقدتم أحرسكم، ولما ناموا نام، ولما استيقظوا تيقظ، ولما ماتوا مات معهم، ويدخل الجنة كناقة صالح، وكبش إِسماعيل، وهو كلب حاله من أخس الأحوال نال درجة الأبرار لحبه إياهم وصحبتهم، حتى كان يتلى فى القرآن فى مقام المدح.
"قال رجل: يا رسول الله مَتَى الساعة؟ فقال:ما أعددت لها؟ فقال: يا رسول الله ما أعددت كثير صيام ولا صدقة ولا صلاة، ولكن أحب الله ورسوله، فقال: فأنت مع من أحببت" وقال: "المرء مع من أحب" قال أنس فما فرحنا بعد الإسلام بأشد من قول النبى صلى الله عليه وسلم: "فأنت مع مَن أحببت" قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأَرجو أن أكون معهم، ولو لم أعمل بأعمالهم.
وقيل: كلبهم راعيهم، فساغ أن أصحاب الكهف ثمانية ولكن لا يلزم أن يكون منهم، ويناسبه قراءة: وكالبهم أى صاحب كلب شبه به، على أنه الباسط الذراع لا كلبه، ووجه الشبه الحفظ، ونصب باسط المفعول مع أنه للماضى غير مقرون بأن يجعل حالهم الماضية كالحاضرة ا لمشاهدة، لأن المشاهدة تزيد قوة، والوصيد الموضع الواسع أمام الكهف، أو هو الباب أو العتبة أو التراب، ولا باب ولا عتبة للكهف، فالمراد موضعين منه لو بنيا، ويحتمل أنهما بنيا.
وقيل: لا يختصان بما بنى، بل هما ولو للغار وتقليبهم لئلا تأكلهم الأرض، رد على مَن قال: إنهم فى توابيت من ساج، إلا أن يقال نزعوا منها، وجعلوا على الأرض أو ما يليهم من التابوت مثل الأرض، كما روى أن ملكاً مسلمًا جعلهم فى توابيت من ذهب، فقالوا له فى المنام: إنا لم نخلق من الذهب بل من الأرض، وإليها نعود، فارددنا فى التراب، فجعلهم فى توابيت من ساج.
ويروى أن مؤمنين من بيت دقيانوس كتما إيمانهما كتبا عددهم ودينهم وأحوالهم وأنسابهم، وفرارهم من دقيانوس فى لوحين من رصاص، وجعلاهما فى تابوت من نحاس، وجعلا التابوت فى البنيان، لعل الله يظهرهم لقوم مؤمنين، فيعلموهم، وقيل: كتب ذلك فى لوح، وجعل فى خزانة الملك، وملك المدينة بعده رجل مؤمن اسمه بيدروس، وشق عليه قول مَن يقول: إن الله يبعث الأرواح دون الأجسام، فتضرع إلى الله جل وعلا، فألقى الله فى قلب رجل أن يهدم سد النار، ويجعله حظيرة لغنمه، ففتحه وبعثهم الله فرحين لم يتغيَّروا، وبعث كلبهم، فأَخبر الناس بهم فجاءوهم.
وروى أنهم بعد هذا الإحياء أرسلوا تمليخا للطعام، فوجد المدينة تغيَّرت، وغلب عليها أمر الإسلام، فجاءوا به إلى الملك، فأخبره تمليخا بشأنهم فقال: يا قوم لعل هذه آية من الله عز وجل لنا، فانطلقوا بنا ليرينا أصحابه، فانطلق ربوس واسطيوس من عظمائهم، وأهل المدينة فدخلا عليهم، فوجدا فى أثر البناء اللوحين فى التابوت فقرآهما، فأَرسلوا إلى الملك أن أعجل تر آية بعث الله فتية ماتوا أكثر من ثلاثمائة، فأتى وقال: أحمدك يا رب السماوات والأرض، تفضلت علىَّ فاعتنقهم ووقف بين أيديهم وهم جلوس على الأرض، يسبِّحون الله ويحمدونه.
فقالوا له: نستودعك الله، والسلام عليك ورحمة الله، حفظك الله، وحفظ ملكك، ونعيذك بالله من شر الإنس والجن، فناموا، وتوفى الله أنفسهم، فجعل الملك عليهم ثيابهم، وجعلهم فى توابيت من ذهب على حد ما مر، وسد الغار بحائط مسجد بناه عليهم، وجعل لهم عيداً عظيما فى كل سنة.
{ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ } يا محمد، أو يا من يصلح ونظرت إِليهم { لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ } من للابتداء، أو بمعنى على { فِرَارًا } مفعول مطلق لوليت، وأجيز الحال والتعليل { وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } خوفاً يملأ قلبك، لما ألبسهم الله من الهيبة، أو عظم أجسامهم، أو انفتاح عيونهم، وشدة صورة نظرها وبريقها، أو وحشة مكانهم، أو كل ذلك، أو منعهم الله بالرعب حتى لا يراهم أحد. وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى الله عنهما: غزونا مع معاوية نحو الروم، فمررنا بالكهف الذى فيه أصحاب الكهف، فقال معاوية: لو كُشف لنا عن هؤلاء نظرنا إليهم، فقال ابن عباس: قد مُنِعَ من ذلك مَن هو خير منك { لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً } إلخ فقال معاوية: لا أنتهى حتى أعلم علمهم، فبعث رجالا فقال: اذهبوا فانظروا: فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأحرقتهم.
ويروى فأخرجتهم، ظن معاوية أن منعهم عن الرؤية إِنما هو فى زمانه صلى الله عليه وسلم، أو ظن أنه قد ضعف حالهم بعد، أو ظن أنه قبل أن يبعثهم الله، أو رجى أن الله قد خلق من لا يرغب، وابن عباس عمل الرعب على الدوام، وهو الظاهر، لأنه إذا كان صلى الله عليه وسلم يرغب فغيره أولى، أو حمل الخطاب على العموم البدلى لكل مَن يصلح، ودخل رجل شديد عليهم فابيضت عيناه، وتغيَّر شعره إذ دخل، فكان يصفهم ويقول: هم سبعة، وهم باقون إلى الآن بلا تغيير، ولا يصح ما قيل إنه دخل عليهم رجل فوجدهم عظاما.
وقيل: الرعب لطول شعورهم وأظافرهم، ويرده قول بعضهم لبثنا يوما أو بعض يوم، ولو طالت ذلك الطول المفرط المدعى لم يقل يوم أو بعض يوم إلا أن يقال: قال ذلك قبل النظر إِلى أَظفارهم وشعورهم، وصح ابن عطية أنهم بقوا على حالهم لم تزد شعورهم وأظفارهم، وإلا كانت أهم لهم، وهم لم ينكروا إلا تغير بناء المدينة والإسلام فيها، وعلى بابها.