خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً
٥٠
مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً
٥١
-الكهف

تيسير التفسير

{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ } كلهم، وقيل: ملائكة الأرض، وقيل: الملائكة غير المهمين { اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا } كلهم { إِلاَّ إِبْلِيسَ } السجود لآدم خضوع له وتعظيم، أو كسجود الصلاة لله تعالى، لكن إِلى جهة آدم وهو قبلة لهم، وفيه تعظيم له أيضا، واستثناء إبليس متصل، لأنه قيل إما ملك خلق من نار، ثم نسخ إلى صورته الجِنِّيَّة، وعَقَب، ولو نسخ بخلاف سائر ما نسخ فإنه لا يعقب، بل يخلق الله عز وجل مثله، وهذا القول ضعيف، وإما لأنه ولو لم يكن منهم إلا أنه نشأ فيهم، وكساه كسوتهم كأنه واحد منهم، وهو أول الجن وأبوهم، وقيل: كان الجن قبله وولد منهم، عصوا الله بعد العبادة، فأمر الله الملائكة فقاتلوهم وطردوهم إلى البحور والشعاب، وقيل: أهلكهم الله تعالى كلهم وبقى بعدهم ينسل كأولاد نوح، وسبوه صغيراً إلى السماء فتعبّد فيهم، وكان رئيسهم لاجتهاده فى العبادة أكثر منهم، وما ترك موضع شبر فى السماوات والأرض إلا سجد فيه.
والواضح أن الاستثناء منقطع، وكررت قصة أمره بالسجود لآدم فى مواضع بحسب ما يناسب كل موضع، فهنا ذكر ليشير إِلى أن صاحب الجنتين متبع لإبليس فى تكبُّره وكفره ورغبته فى الدنيا، وأن صاحبه المؤمن متبع لآدم والملائكة فى طاعة الله، والاتضاع والزهد، وهكذا سائر ما يكرر فى القرآن، وفى تكرير قصة السجود تذكير لنا بعدونا القديم لئلا نغفل، والملائكة كلهم معصومون، وزعم بعض أن ملائكة الأرض غير معصومين، وأن إبليس منهم.
{ كَانَ مِنَ الجِنِّ } حال بإضمار قد، أو استئناف لبيان أنه ليس من الملائكة، وأنه لو كان منهم لم يعص، لأنهم معصومون، وقيل: الجن نوع من الملائكة يمكن منهم العصيان، وهو قول باطل،وزعم بعض أن الجن فى الآية ملائكة يصوغون الحلى لأهل الجنة.
{ فَفَسَقَ } بسبب كونه من الجن، لأن العطف على كان إلخ وقيل: الفاء تعليل لقوله إلا إبليس، وعندى يجوز كون الفاء سببية ولو بلا عطف وإباؤه من السجود يعتبر سببًا لاتصافه باسم الفسق، أو هو سبب لسراير فسقه بعد.
{ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } خرج عنه لأنه غير ملَك كما يعصى الأدمى، وكما يعصى الجن، بل يعصى جلهم، وأمر بالسجود فى جملة الملائكة فلم يسجد، وأمر الملائكة ونهيهم أمر له، ونهى له، إذ كان مغموراً فيهم، وعن للمجاوزة على أصلها، لأن المعنى مائل عن أمر ربه، ومعرض عنه، ولا حاجة إلى جعلها سببية، وإلى أن الأمر بمعنى المشيئة، لأن المشيئة لله لا تتخلف، وكذا إرادته، والتحقيق أنه تخلف عما أمر به، وعصى أمر ربه بمعنى ما أمر به من السجود.
نعم يجوز على خلاف الأصل أنها سببية، وأن مشيئته التى فسرنا بها أمر ربه مشيئته التى بمعنى القضاء، وهى التى ذكرت أنها لا تتخلف، أى فسق بسبب قضاء الله عز وجل عليها بالخذلان.
{ أَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ } أى المشركين منهم، وأما المؤمنون فليسوا فى هذا المقام، ولا يدعون إلى عبادة غير الله، ومن عَبَده فقد ضل وحده.
{ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِى } أتجهلون عداوته فتتخذونه، أو أتكفرون نعمتى فتتخذونه وذريته أولياء بدلا منى، وتطيعونهم بدل طلبتى، أو الذرية أتباعه مطلقا من الجن والإنس تسمية للكل باسم البعض، قيل: إبليس لم يتزوج ولم يلد، وإنما الجن والشياطين ممن قبله، وقيل: كان ملكاً، ولما عصى مسخ، وجعل يتزوج، وقيل: يدخل ذَنَبه فى دبره فيلد، فيبيض، وتفلق البيضة عن شياطين، وهو قوله تعالى { ذريته } وهو الصحيح.
والمانع بقول ذريته أتباعه كما يقال للأتباع: الإخوان، ولا يولد آدمى إلا ولد معه شيطان يقرن به، ويقال: ولد خمسة: تبر وهو صاحب المصائب، والأعور وهو صاحب الزنى اسم يدخل مسمع الرجل الذى يدخل بيته ولم يسلّم، ويأكل معه إذا لم يسمّ، ومسوط وهو صاحب الصخب، وقيل: صاحب أخبار الكذب، يلقيها على أفواه الناس، وزليفور وهو الذى يفرق بين الناس، ويبصر الرجل عيوب أهله، وقيل: صاحب الأسواق.
ويقال: إن جميع ذريته من خمس بيضات، ويجتمع على المؤمن الواحد أكثر من ربيعة ومضر، ويجوز أن يراد بالذرية أولاده وأتباعه جمعًا بين الحقيقة والمجاز أو حملا على عموم المجاز، وقيل: يلد بذكر فى فخذه اليمنى، وفرج فى اليسرى.
{ وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } فى الدين والدنيا، والمعنى والحال أنهم أعداء لكم، كما أنهم أعداء الله وذلك كفر لنعمة الله، وصداقة لأعدائه.
{ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } من الله، والمخصوص بالذم محذوف تقديره إبليس وذريته، وهم مخلوقون خلقهم الله، وليسوا خالقين للسماوات والأرض، ولا لأنفسهم فكيف يستحقون العبادة، وعرض ذلك بقوله:
{ مَا أَشْهَدْتُهُمْ } ما أحضرتهم أى إبليس وذريته { خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } حين خلقت ذلك فاللفظ لنفى إحضارهم، والمعنى لكون الله الخالق لا هم فكيف يُعبدون، أو ليسوا ممن يبالى بهم، فكيف أحضرهم عند خلق السماوات والأرض، وخلق أنفسهم، فهذا تعريض بحقارتهم، هم لا يعتبرون إلا بالانتقام منهم، ولا يتقوَّى بهم، والله كامل القوة، لا يتقوَّى بهم ولا بغيرهم.
إن قلت: حضور الشئ لنفسه قبل وجوده محال، فكيف قال: "ولا خلق أنفسهم"؟
قلت: المعنى ولا أشهدت بعضا منهم، موجوداً لخلق بعض منهم، غير موجود، كقوله تعالى:
" { ولا تقتلوا أنفسكم } " [النساء: 29] أو ما أحضرت بعضًا خلق بقية جسده.
{ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } كعضد اليد أتقوى به، يقال: عضده قوَّاه، والمضلين إبليس وذريته من وضع الظاهر موضع المضمر، ليعيب عليهم بذكر الإضلال، فهم سفهاء مناقضون لما دعوا إليه من الحكمة، والحكيم لا يتخذ السفيه عضداً، فكيف أحكم الحكماء بأسفه السفهاء. قال النفسى: قال لى رجل: هل لإبليس زوجة، فقلت: ذلك العرس ما شهدته أراد نفى الزوجة، فتذكرت قوله تعالى: { وذريته } والذرية لا تكون إلا من زوجة، فقلت: نعم له زوجة، وهذا أظهر.
ومن جملة ذريته أولاد الزنى، والأولاد الذين من أموال الحرام، والولد من جماع، استحضر الرجل عند جماعة امرأة غير زوجه أو سريته، فى قلبه، ولا يحسن استحضارهما وذكر بعض أنه يدخل ذَنَبه أو ذكره فى دبره، فيبيض وتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين، فيستغنى عن زوج إلا أن تكون للتمتع، والبيضة لإكثار الأولاد.
ويجوز على تفكيك الضمائر أن يكون قوله عز وجل: { ما أشهدتهم } لمشركى قريش على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما مر من وضع المضلين موضع الضمير، ومن التعريض بحقارتهم وانتفاء صلوحهم للتقوية بهم، ولا تطمع فى أنهم لو آمنوا لآمن الناس كما يزعمون، وكما تظن، وأفرد العضد لأنه يعم بسياق النفى، إذ هو نكرة، واختار ذلك للفاصلة، ولأن الجمع فى حكم الواحد فى عدم الصلوح للاعتضاد.