خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً
٨٣
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً
٨٤
فَأَتْبَعَ سَبَباً
٨٥
-الكهف

تيسير التفسير

{ وَيَسْأَلُونَكَ } يا محمد سؤال امتحان { عَنْ ذِى الْقَرْنَيْنِ } أى عن شأنه كما يدل له الجواب فى الآية، السائلون قريش بتلقين اليهود، وقيل: اليهود كما روى عن السدى، وأكثر الآثار دل على أن الآية نزلت بعد سؤالهم، فالمضارع لتنزيل الماضى منزلة الحاضر، لأن فى سؤالهم إياه مع ما شاهد وأمن أمره صلى الله عليه وسلم نوع غرابة، أو للاستمرار على السؤال إلى أن أجابهم، وعن عقبة بن عامر: جاء نفر من أهل الكتاب بالصف أو الكتب فقالوا: استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لندخل، ففعلت فقال صلى الله عليه وسلم: "ما لهم يسألونى عما لا أعلم، لا أعلم إلا ما علمنى ربى" ثم قال: ائتنى بوَضوء فتوضأ، فركع فى مصلاه من بيته ركعتين، فسُر وجهه وقال: "أدخلهم مَن بالباب من أصحابى" فأدخلتهم فقال صلى الله عليه وسلم: "إن شئتم أخبرتكم بما جئتم للسؤال عنه" .
ولا يصح ما قيل إن ذى القرنين ملك، وإن عمر سمع فى منى قائلا يقول: يا ذا القرنين؟ فقال: ما لكم وأسماء الملائكة، وإن صح فالمراد أن هذا الاسم من أسماء الملائكة لا تسموا به، ولو سمى به من قبلكم، وقيل: رجل صالح عالم حكيم مهيب، ملَّكه الله الأرض ولا يدرى مَن هو. وعن علىّ لقب بذلك دعا إلى الله، فضرب على قرنه الأيمن فمات، فبعثه الله، وضرب على الأيسر ومات وبعثه الله، وقيل: لأنه انقرض فى عمره قرنان من الناس. وعن وهب بن منبّه: لأن صفحتى رأسه من نحاس، وعن عبيد الله بن يعلى: لأن فى رأسه قرنين كالظلفين، وهو أول من لبس العمامة، لبسها ليسترهما، وقيل: لأن لتاجه قرنين.
وعنه صلى الله عليه وسلم: أنه طاف قرنى الدنيا غربها وشرقها. وعن قتادة ويونس بن عبيد: لأن له غديرتين، وقيل: لأنه سخر له النور والظلمة، يهديه النور قدامه إِذا سرى، وتمتد الظلمة وراءه، وقيل: لأنه دخل النور والظلمة، وقيل: لأنه رأى فى نومه كأنه صعد وأخذ بقرنى الشمس، وقيل: لأنه لشجاعته ينطح أقرانه، وقيل: هو فريدون بن أثغيان وهو مسلم، يؤيد بالوحى، أعطى ابنه أبراج العراق والهند والحجاز، وأعطاه التاج، وابنه سلم الروم وديار مصر والمغرب، وابنه نور الصين والترك والمشرق، ووضع لكل قانوناً يحكم به، وسميت قوانينهم سياسة، بمعنى سى إِيسا أى ثلاثة قوانين، وسلطنته خمسمائة عام. ويرد هذا أن الله جل وعلا أخبرنا بسفر ذى القرنين أنه سافر، وذلك لم يسافر بإجماع أهل التاريخ، وإنما مهد له الأرض كاوه الأصبهانى الحداد، الذى مزق به الله ملك الضحاك، إلا أن يثبت له ما يذكر للإسكندر ولا يبالى بعدم ذكر المؤرخين، وقيل: إسكندر اليونانى فيلسوف، وقيل: قلفيص، وقيل: قليص. وقال ابن كثير: هو ابن فيلبس بن مصيم بن هرمسا بن ميطون ابن رومى بن ليطى بن يونان بن يافث بن نونة بن شرخون بن نونط بن نوفل بن رومى بن الأصغر بن العزيز بن العيص بن إِسحاق بن إِبراهيم الخليل، وسرير ملكه مقدونيا غرب القسطنطينية المحمية بينهما خمسة عشر يومًا، وهو الذى غلب دارا الأصغر، واستولى على الفرس، كان مولده فى السنة الثالثة عشرة من مُلك دارا الأكبر.
وزعم بعض أنه أبوه، وروى أن أباه جمع له ملوك الروم والمغرب وقهرهم، وانتهى إِلى المحيط، عاد إلى مصر، وبنى الإسكندرية، والمدن الكثيرة، ودخل الشام، وقصد بنى إسرائيل، وقصد بيت المقدس، وذبح فيه، وملك الدنيا، ومات بشهر زور من العراق، وقيل: مات برومية المدائن، وحملوه فى تابوت من ذهب إلى الإسكندرية وعمره اثنان وثلاثون سنة، ومدة مُلكه اثنتا عشرة سنة، وقيل: عمره ست وثلاثون، ومدة مُلكه ست عشرة.
فالمراد بذى القرنين الإسكندر وهو الصحيح، لما ذكره الله جل وعلا من التمكين له، ولا ينافى ذلك أنه تلميذ أرسطو الحكيم خمس سنين بأمر أبيه، لأنه تعلّم منه ما يجوز، ولم يتبعه على كفره، كما تلمذ الشافعى وأحمد على أبى حنيفة، وخالفاه. وتلمذ الشافعى على مالك وخالفاه، وتلمذ أحمد وأبو حنيفة على مالك أيضًا، والأشعرى على المعتزلة وخالفهم، ورئيس المعتزلة على الحسن البصرى وخالفه، وأرسطو على أفلاطون وخالفه، وذبحه فى بيت المقدس دليل على إقراره بالله، بل قال له الحكماء: نسجد لك فقال: لا يجوز السجود لغير بارئ الكل، وقيل: هو الإسكندر الرومى وهو متقدم على اليونانى بكثير، ويقال له ذو القرنين الأكبر، واسمه مرزبان بن مردية، من ولد يافث بن نوح، وكان أسود.
وقيل: اسمه عبد الله بن الضحاك، وقيل: مصعب بن عبد الله بن قينان ابن منصور بن عبد الله، وذكر بعض المحققين أن الاسكندر الرومى، والإسكندر اليونانى يطلقان على غالب دارا الأصغر والذى عليه الكثير أن المسمى بالإسكندر عند الملوك اثنان بينهما نحو ألفى سنة، وأن أولهما هو المراد بذى القرنين، ويسميه بعضهم الرومى، وبعضهم اليونانى، عمره ألف سنة وستمائة، وقيل: ألفا سنة، وقيل: ثلاثة آلاف، ولا يصح من ذلك شئ، وقيل: ذو القرنين هو أبو كرب بن عمير بن إفريقس الحميرى، وهو الذى افتخر به تبع اليمنى إذ قال:

قد كان ذو القرنين جَدِّى مُسلمًا ملكًا علا فى الأرض غير مفنَّد
بلغ المغارب والمشارق يبتغى أسباب مُلك من حكيم مرشد
فرأَى مغيب الشمس عند غروبها فى عين ذى خلب وتاط حرمد

واختاره بعض لأن الأذواء كانوا من اليمن كذى المنار، وذى نواس، وذى رعين، وذى يزن، جدن، ويقال: اجتمع مع إبراهيم خليل الله فى مكة المشرفة، وتعانقا. وروى أنه أسلم على يده، وطاف معه بالكعبة، وثالثهما إسماعيل عليه السلام. وروى أنه حج ماشيًا فلما سمع إبراهيم عليه السلام تلقاه وأوصاه بوصايا. وروى أنه أتى بفرس فقال: لا أركب فى بلد فيه خليل الله، فسخر الله له الأسباب والسحاب، وبشره إبراهيم، فكانت السحابة تحمله، وعساكره وآلاتهم إذا أراد الغزو.
وذكر بعض أن ذا القرنين هو شمر بن فرقس، ويقال: شمر يرعش لارتعاش فيه، فقال: إن أباه إفريقس غزا نحو المغرب فى أرض البربر، حتى أتى طنجة، ونقل البربر من فلسطين ومصر والساحل إلى مساكنهم فى المغرب، وبنى أفريقية، وعمره مائة وأربع وستون سنة، ودخل العراق والصين، وقلع سمرقند، وهو مغرب شموكند. وقال ابن قتيبة: عمره مائة وسبع وثلاثون. وقال المسعودى: ثلاث وخمسون، وقيل: سبع وثمانون، وقيل: هذا المكنى أبا كرب تُبَّع الأوسط الذى قال:

شهدت على أحمد أنه نبىّ من الله بارئ النَّسَم
فلو مد عمرى إلى عمره لكنت وزيرًا له وابن عم

وكان كثير الغزو فأغروا ابنه حسانًا فقتله، واختار بعض المتأخرين أن ذا القرنين الإسكندر ابن فيلسوف غالب دارا، ويقال له: اليونانى والرومى، وشهر بالحكمة دون النبوة، وفى بعض الأعصار السابقة يسمى النبى حكيمًا.
وقد قيل: إن الخضر نبى، وأنه وزير ذى القرنين، ومعنى كونه وزيراً له أنه مدبر أمره وأخرج ابن أبى حاتم عن السدى أن اليهود قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: إِنما تذكر إبراهيم وإسماعيل، وعيسى والنبيين لأنك سمعتهم منا فأخبرنا عن نبى لم يذكره الله فى التوراة إلا فى مكان واحد، قال: ومَن هو؟ قالوا: ذو القرنين فنزل قوله تعالى:
{ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا } ومن للابتداء أو للتبعيض، والمراد من أخباره، والتبعيض أولى وإن رجعنا الضمير إلى الله تعين الابتداء أو تعلقت بأتلو، ويجوز تعليقها بمحذوف حال من ذكراً كما إذا جعلت للتبعيض، وردت الهاء لذى القرنين، والسين للتأكد، والتحتم كأنه قال: لا أترك التلاوة كقوله:

سأشكر عمراً إن تراخت منيتى أيادى لم تمنن وإِن هى جلت

لا للاستقبال، لأنه ذكر عقب ذلك بقوله:
{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأَرْضِ } جعلنا له قدرة وقوة على التصرف فى الأرض من حيث التدبير، والجنود، والهيبة، والوقار، وتسخير السحاب، والظلمة والنور، كما مرّ، حتى قيل: الليل والنهار عنده سواء، ومكنه بلا لام جعله قادراً، وقيل: مكنَّا له النبوة. وقد روى أبو الورقاء، عن علىّ أنه نبى، وعليه مقاتل والضحاك. وسأل ابن الكواء عليًّا فقال: ليس نبيًّا بل عبد صالح، أحب الله فأحبه، ونصح له فنصحه، وهو مذهب الجمهور، وتوقف بعضهم.
روى عبد الرازق، وابن المنذر، وابن حاتم، وابن مردويه، والحاكم، وصححه عن أبى هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما أدرى أَتُبَّع كان لعينًا أم لا، وما أدرى أذو القرنين كان نبيًّا أم لا، وما أدرى الحدود كفارة لأهلها أم لا" فلعله صلى الله عليه وسلم علم بعد ذلك أنه نبى أو غير نبى كما فى رواية، وأما تُبَّع فعلم بعد ذلك أنه مؤمن، ونهى عن سبّه، وأن الحدود كفارة لمن تاب.
{ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ } يحتاج إليه فى سلطنته وغيرها { سَبَبًا } طريقا يوصله إليه من علم وقدرة وآلة، ومن للبيان، والمبين سبباً ويقدر مضاف أى من أسباب كل شئ، أو للابتداء، أو للتعليل فلا يقدر مضاف { فَأَتْبَعَ } فأراد بلوغ المغرب فأتبع { سَبَبًا } يصله به.