خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً
١١
يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً
١٢
وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً
١٣
-مريم

تيسير التفسير

{ فخرج على قَوْمه من المحْرابِ } خرس لسانه عن أن يتكلم للناس أو من المغرب، وأصبح فخرج على قومه من المحراب، أى المصلى أو الغرفة، وأصله مجلس الأشراف الذى يحارب دونه ذباً عن أهله، فسمى محل العبادة محرابا، لأن العابد يحارب الشيطان فيه، ولم يكن المحراب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ينتظرونه أن يفتح لهم الباب ليصلوا، فخرج متغير اللون وقالوا: مالك.
{ فأَوْحى إِليهم أنْ سَبِّحوا بُكرةً وعشياً } أشار إليهم كما يدل له قوله تعالى:
{ إلاَّ رمزاً } [آل عمران: 41] أو كتب لهم على تراب الأرض كما روى عن ابن عباس أو على ورقة، كما روى عن عكرمة كقول عنترة:

كوحى صحائف من عهد كسرى فأوحاها لأعجم طه طمطمى

وقول ذى الرقة:

سوى الأربع الدهم اللواتى كأنها بقية وحتى فى بطون الصحائف

وأن تفسيريه بلا تقدير، قيل: أو مخففة بتقدير الباء، وسبحوا صلوا، كما روى عن ابن عباس سمى الصلاة باسم بعضها، وهو التسبيح فيها، وبكرة وقت صلاة الفجر، وعشياً وقت صلاة العصر، فالتسبيح الصلاة فى الوقتين على الكيفية التى أمر بها، ولم يتعبدوا بالصلوات الخمس، أو التسبيح ذكر الله وتنزيهه، أمروا أن يسبحوا شكراً للنعمة كما أمر، أو المراد استغراق اليوم بالذكر، وذكر طرفى اليوم فقط، أو خص التسبيح لأنه من ير أمراً غريباً يقل سبحان الله تعالى سبحان الخالق جل جلاله، ومثل هذا، أو أخبر قومه قبل طلب العلامة بما بشر به، ولما تعذر عليه الكلام أشار إليهم بحصول ما بشر به، فسروا لذلك، ولما ولد وبلغ سناً مثله فيه قلنا يا يحيى كما قال:
{ يا يحيى خُذ الكتابَ } التوراة المعهودة، أو صحف إبراهيم، أو كتاباً خص به، وأل للعهد الحضورى، أو جنس الكتب المنزلة، ولما يأت الإنجيل { بِقوَّة } بخذ منك فى قراءته والعمل به، والأمر به، وعن أنس: القوة الدرس بجد ومواظبة، وفى الأمثال: عليك بالدرس فإن الدرس هو الغرس، قيل لعبد الله بن عباس: بم نلت العلم؟ فقال: بلسان سئول، وقلب عقول، وفؤاد غير ملول، وكف بذول، وبدن فى الضراء والسراء صبور، وقيل لبزرجمهر: بم نلت؟ فقال ببكور كبكور الغراب، وتملق كتملق الكلب، وتضرع كتضرع السنور، وحرص كحرص الخنزير، وصبر كصبر الحمار، وقال بعض: إن القائل: { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } أبوه لما ترعرع قال له أبوه ذلك، ولا دليل فى الآية عليه، فلا تحمل عليه، ويزيده بعداً قوله تعالى:
{ وآتيناه الحُكْمَ صبياً وحناناً من لدنَّا وزكاة } فإن الأنسب أن يكون قائل هذا هو قائل: { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } وذلك فى ذاته من الجائز، فيكون آتيناه الحكم عطفاً على ما قبل: يا يحيى، لكن أى دليل على إدخال الأب فى ذلك، فالقائل الله والعطف على قلنا المقدر، والحكم الفهم والعبادة.
قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أعطى الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين" رواه أبو نعيم وابن مردويه، والديلمى، وعن بعض السلف من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فهو ممن أوتى الحكم صبياً، وعن ابن عباس: قال صلى الله عليه وسلم: "قال الغلمان ليحيى اذهب بنا نلعب فقال أللِّعب خلقنا اذهبوا نصل فهو قوله: { وآتيناه الحكم صبياً } " والحكم على هذا الحكمة، وقيل: هى العقل، وقيل: معرفة آداب الخدمة، وقيل: الفراسة الصادقة، وقال كثير: إنها النبوة أوتيها وهو ابن سبع سنين، أو ابن ثلاث، أو ابن سنتين، وأكثر الأنبياء لم ينبأوا قبل الأربعين.
والحنان الرحمة، ونكر هو وزكاة التفخيم، وزاد التفخيم للحنان بوصفه بقوله: { من لدنا } وهذه الرحمة من الله له إنعام عليه بأمر الدين كما أن الزكاة طهارة موهوبة له من الله، ونمو فى الدين منه عز وجل له، وهذا أبلغ من أن يقول ورحمناه، ويجوز أن يكون الحنان من يحيى للخلق أى جعله الله راحماً لعباد الله عاطفاً عليهم، ثم رأيت عن بعض أن المعنى فى آتيناه رحمة فى قلبه وشفقة على أبويه وغيرهما، وعليه فالوصف بقوله: { من لدنا } تحرز عن رحمة تؤدى إلى ترك واجب كالحدود، أو إشارة إلى أنها زائدة على ما فى الناس من التراحم، ولا بأس فى إفراط لا يؤدى إلى بأس.
وهذه المعانى صالحة أيضا مع تعلق من لدنا بآتيناه، وعن ابن زيد وعكرمة الحنان المحبة أى جعلناه محبوبا عند الناس كموسى
{ وألقيت عليك محبة منى } [طه: 39] أو جعلناه محباً لله، والزكاة البركة كما روى عن ابن عباس، وذلك أنه نفاع للخلق، معلم للخير، أو الطهارة من الذنوب، وقيل: الزكاة الصدقة، والمراد ما يتصدق به.
{ وكانَ تقياً } عظيم الحذر عن المعاصى، ما عمل معصية ولا هم بها، وذكر مالك، وأحمد، وابن المبارك، وأبو نعيم، عن مجاهد: أن طعامه العشب، وأنه كثير البكاء من خشية الله، حتى اتخذت الدموع مجرى فى خده.