خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
١٤٢
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١٤٣
-البقرة

تيسير التفسير

{ سَيَقُولُ } الخ نزلت قبل قوله: مَا وَلاَّهم وبعد { { قد نرى تقلب وجهك } [البقرة: 144].. الآية فتكون معجزة بالإخبار بالغيب، وتوطيناً لنفوس المؤمنين على الصبر، وليستعدوا للجواب، ومفاجأة المكروه أشد على النفس، وأدعى لاضطراب الجواب، أو خطئه فقدم الله الإخبار لهم ولقنهم الجواب، وعلى صحة نزولها بعد قولهم: ما ولاهم، فالسين للتأكيد دون الاستقبال، وفائدة التأكيد ذمهم، بأنهم قد تحقق منهم كلام سوء وطعن، فيكون الفعل للال المحكية تنزيلا للماضى منزلة الحاضر، أو الاستمرار أو هى للاستقبال بمعنى، أنهم سيعيدون القول ويكررونه مجاهرة، وجد بعد إخفاء { السُّفَهَاءُ } من يضعون الشىء فى غير موضعه لخفة عقولهم، ويعملون بغير دليل ويرون غير الدليل دليلا { مِنَ النَّاسِ } أى من جملة الناس، لئلا يتوهم أن السفهاء هم خصوص المذكورين أوائل السورة، والسفيه ولو كان قد يكون من الحيوانات لكن لا قول لها إلا شاداً، أو تأويلا فلا يحترز عنها، والسفهاء اليهود المجاهرون، والمنافقون بإضمار الشرك من العرب، والمنافقون من اليهود، ومشركو العرب، أما اليهود فإنهم لا يرون الفسخ، وكانوا يأنسون باستقبال النبى صلى الله عليه وسلم بيت المقدس، ويرجعون أن يرجع إلى دينهم، ولما استقبل القبلة اغتموا، وقالوا، اشتاق إلى دين آبائه، ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه المبشر به فى التوراة، فبعض علموا أنه النبى، وأنه سيرجع إلى الكعبة وكتم، ولو لم يرجع إليها لعلموا أنه غير النبى، وقال ذلك سفها، وبعض ما علم وقال ذلك، وأما المنافقون فقالوا: تحوله للكعبة لعب بالدين وعمل بالرأى لا دين، وأما مشركو العرب فقالوا، قد رجع إلى وفاقنا، ولو بقى عليه من أول الأمر لكان أولى له وكذبوا، لم يكن قط إلا على الإسلام، إلا إن أرادوا موافقة الكعبة.
ويروى أنه كان يصلي إلى بيت المقدس فتأذوا بذلك، وقيل: يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس ولما حوّلت الكعبة قالوا، لو كان من أول كذلك كأن ألْيق به، وقالوا: رغب عن قبلة آبائه، ثم رجع إليها، وسيرجع إلى دينهم.
قال البراء: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى
" { قد نرى تقلب وجهك... } " [البقرة: 144] الآية فكان يصلى إليها.
وفى رواية صلى إلى بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر، وعن معاذ ثلاثة عشر شهرا، وقيل سبعة أشهر { مَا وَلَّٰهُمْ } صرفهم إلى الكعبة { عَنْ قِبْلَتِهِمُ } صخرة بيت المقدس.
وأصل الكعبة نوع من الاستقبال فى ذات المستقبل وأحواله فى مكانه، ثم صار حقيقة عرفية عامة للجهة المسقبل إليها { الَّتِي كَانُواُ عَلَيْهَا } فى صلاتهم ودعائهم وأمورهم، وذلك ظاهر فى اليهود والمنافقين من العرب المعتقدين لحقية قبلة اليهود تقليداً لليهود.
ومما ورد فى صخرة بيت المقدس، أن المياه تقسم عليها لأهل الأرض.
وأما مشركو العرب فقولهم، ما ولاهم... الخ مجرد طعن، بأن الانصراف بلا داع، وأما استقبال الكعبة فحق عندهم { قُل لِّلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } وسائر الأرض دخل فيها تعميما للجوانب، أو كناية عن جميع الأرض، وذلك أبلغ من أن يقول، لله الأرض كلها، وأيضاً فى ذكرها تلويح بذكر قبلة النصارى وهى المشرق، وقبلة اليهود، وهى المغرب، وأخره لأن الطلوع قبل الغروب، ومطابقة لمزيد ظهورها لكونهما مطالع النور والظلمة وكثرة توجه الناس إليهما للأوقات والمقاصد، ولا بد أنهما سميا لشروق الشمس وغروبها، لكن إما أن يعتبرا على طول الأرض وعرضها، وإما أن يعتبرا بمشارق الأرض ومغاربها { يَهْدِي مَن يَشَآءُ } هدايته { إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } هداية توفيق إلى قبول دين الله، سواء أعمل به، أو آمن، وقيل: وعمل الكبائر فهو للنار إن أصرَّ، فهؤلاء أمة الإجابة، ومقابلهم من لم يهده التوحيد وقبول الدين، وهم اليهود والنصارى وكل مشرك، وهم أمة كفر من جملة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كقوم نوح وقوم هود، وهداية توفيق للسعادة، وبدل للأول العموم فى قوله:
{ وَكَذَلِكَ } الخ، أى كما هديناكم إلى الصراط المسقيم، وجعلنا قبلتكم الكعبة لا تنسخ هى ولا دينكم، وهما أفضل دين وقبلة، ولو لم تصرح الآية بالأفضلية وعدم النسخ، لكن ناسبه التفضيل فى قوله "جعلناكم أمة... الخ" ولا شك أن الكعبة أشرف لأنها قبلة إبراهيم، وقبلة آدم، ومن بعد، وإذا صير إلى السبق فهى أسبق، لأنها قبل آدم بألفى عام تحجه الملائكة، ووضع الله بيت المقدس أيضاً لكن بعد الكعبة بأربعين عاما { جَعَلْنَٰكُمْ } يا أمة محمد { أُمَّةً وَسَطاً } أفضل من غيركم بالعلم، والعمل من الواسطة التى هى المختار من الجواهر، أو من الواسطة بمعنى الاعتدال فى الشأن، لأن وسط الشىء مصون، والأطراف يتسارع إليها الخلل، ولأنها وسط معنوى، بين إفراط وتفريط، والوسط فى الأصل اسم لما يستوى نسبة الجوانب إليه كالمركز، ثم استعير للخصال المحمودة لكونها أوساطا للخصال المذمومة المكتنفة بها من طرفى الإفراط والتفريط، كالجود بين الإسراف والبخل، والشجاعة بين الجبن والتهور { لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ } أن أنبياءهم بلغوهم، والمراد بالكاف وواو تكونوا المجموع لا الجميع، لأن الأشقياء من هذه الأمة لا يكونون شهداء على الناس الذين قبل هذه الأمة { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ } لكم { شَهِيداً } بأنكم عدول تقبل شهادتكم على الأمم، وأنه بلغكم وقبلتم، كما دل عليه أمة وسطاً وأنكم شهداء، فله مدخل فى التعليل، بخلاف ما لو فسرنا بمجرد شهادته صلى الله عليه وسلم، أنه بلغكم، فيخص عن الأنبياء بشهادته لنفسه بالتبليغ فتكون على بظاهرها، فتكون اللام للعاقبة فى هذا، ولو صح التعليل فى تكونوا فيجمع فيه بين الحقيقة والمجاز، أو تجعل لعموم المجاز، أو تجعل فى الأول للتعليل، وتقدر فى الثانى للعاقبة، أى، وليكون الرسول عليكم شهيداً.
تنكر كفار الأمم تبليغ الرسل، فيقول الرسل، تشهد لنا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيشهدون لهم بالتبليغ، فيقول الكفار: كيف يشهدون علينا وهم بعدنا؟ فيقولون: يا ربنا، أرسلت إلينا رسولا: وأنزلت علينا كتابا فيه تبليغهم وأنت صادق، فيسأل صلى الله عليه وسلم عن أمته، فيزكيهم، يشهد كل نبى على أمته باكفر بما بلغها
" { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } " [النساء: 41] فتكذبه الأمم، فتشهد له هذه الأمة، وشهادته صلى الله عليه وسلم بعدالة أمته الشاهدين للأنبياء شهادة على كفار الأمم " { وجئنا بك على هؤلاء } " [النساء: 41] أى كفار الأمم، شهيداً.
وعن أبى سعيد عنه صلى الله عليه وسلم: يجىء النبى صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ومعه الرجل، أو النبى ومعه الرجلان وأكثر، فيدعى قومه، فيقال لهم: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما أعلمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا، فذلك قوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا. الآية.
وفى رواية، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم، ويشهد بعدالتهم، وذلك قوله تعالى: ويكون الرسول عليكم شهيداً: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ } وهى الكعبة فى نفس الأمر { الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا } قبل، كانت قبلته حين كان بمكة الكعبة، ولو كان يجعلها بينه وبين بيت المقدس، واستقبل المقدس فى المدينة ستة أو سبعة عشر شهرا، بأمر الله تأليفا لليهود، ثم حوله للكعبة. فالتى مفعول ثان لا نعت على المختار، أو ما جعلنا القبلة فى المدينة قبل التحويل أو ما جعلنا القبلة التى كنت عليها قبل الهجرة قبلة، أو ما جعلنا القبلة التى كنت عليها بعد الهجرة قبلة، فالمفعول الثانى محذوف، والتى نعت { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } محمداً صلى الله عليه وسلم علم ظهور، أو ليظهر علمنا، أو نعاملهم معاملة المختبر، وعلم الله أزكى، لكن لا يخفى عنه وقع الشىء ووقته وتفاصيله، لأنه الخالق له؛ أو ليعلم رسولنا أو عبادنا الصالحون، فحذف المضاف، أو أسند لنفسه، لأنهم خواصه، وفى ذلك تعظيم لهم، أو لنميز مع يتبع الرسول للناس، والعلم سبب للتمييز وملزوم له، فإن العلم صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض، أو لنجازى الطائع والعاصى، وإنما يكون الجزاء ممن علم طاعة الطائع وعصيان العاصى، والمراد بالاتباع البقاء على اتباعه فيما مضى وفيما يحدث من القبلة وغيرها { مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } يكفر بعد الإيمان، بسبب تبدل القبلة كفراً شبيهاً برجوع الماشى إلى ورائه، يظن أنه صلى الله عليه وسلم فى حيرة من أمره، وقد ارتد لذلك الظن جماعة { وَإِن } إنه أى الشأن { كَانَتْ } أى التولية المعلومة من قوله، ما ولاهم، أو القبلة، أو التحويلة، أو الردة إلى الكعبة. أو الجعلة أو المتابعة { لَكَبِيرَةً } شاقة على قلوب الناس، وقاعدة الكوفيين فى جميع القرآن وغيره، أن يجعلوا أن المخففة نافية لا مخففة، واللام بعدها بمعنى إلا، ويرده أنه لم يجىء فى كلام العرب، ما جاء لزيد، أى إلا زيد، وجاء القوم لزيد، أى إلا زيداً { إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ } منهم، أجاز بعضهم التفريغ فى الإثبات، والمانع يعتبر ما فى كبيرة من معنى النفى، أى لا تخف إلا على الذين هدى الله.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء، ينتظر أمر الله، فأنزل الله تعالى، قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضَها فول وجهك شطر المسجد الحرام، فقال رجال من المسلمين: ووددنا لو علمنا علم من مات منا، قبل أن نصرف إلى القبلة، وكيف صلواتنا إلى بيت المقدس، فأنزل الله عز وجل { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْ } أى طاعتكم، أى ثوابها، وكل عبادة إيمان، وفى الحديث، الإيمان بضع وستون جزءا، وهى أن الإيمان مؤنثة لتأنيث الخبر فى الآية، الصلاة.
قال حيى بن أخطب وأصحابه من اليهود، إن كانت صلاتكم إلى بيت المقدس هدى فقط تحولتم عنه، أو ضلالة فقد دنتم بها مدة، ومن مات قبل التحويل مات عليها كأسعد بن زرارة، وأبى أمامة بن بنى النجار والبراء بن معرور من بنى سلمة، وكانا من النقباء، وآخرين، فقال عشائرهم، يا رسول الله، قد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فما حال من مات منا قبل الصرف؟ فنزل: وما كان الله ليضيع إيمانكم، أى صلاتكم أو طاعتكم مطلقاً، لا يضيع صلاتكم ولا غيرها، أو إيمانكم باستقبال بيت المقدس سواء أقلنا لها بوحى على ما رجحوا، أو اجتهاد منه إذ وجد أهل التوراة يستقبلونها، كما صام عاشوراء متابعة لهم، فوطن أن يستقبلها حتى يوحتى إليه فى الاستقبال، ومن قال، الإيمان التصديق فقط، وفسره بالصلاة فقد يجوز لأنه سببها وملزومها { إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ } متعلق بما بعد اللام بحسب الظاهر فيحمل عليه، فيقال، لا صدر لللام فى خير إن إذا كان المتعلق ظرفاً أو مجروراً، لأن تأويل الكثير لا يحسن إلا لما لا بد منه ولا محيد عنه { لَرَءُوفٌ } شديد الرحمة { رَّحِيمٌ } الرحمة أعم من الرأفة، ومع ذلك أخرها للفاصلة، وهى مبنية على الميم نظير الميم فى مستقيم، وأولى من ذلك أن نقول، لا محذور فى تقديم خاص لا يشمل كل ما فى العام، فلذكر العام بعده دلالة على ما لم يدل عليه الخاص، فذكر الرحمة ليدل على رحمة أخرى دون الشديدة، بخلاف فلان متكلم فصيح، فإنه لو أخر متكلم لم تكن له فائدة، فإن فلانا لا يكون فصيحاً إلا وهو متكلم. ولذلك قدمت بلا فاصلة فى قوله تعالى
" { رأفة ورحمة } " [الحديد: 27] وقيل، الرحمة تعم دفع المكروه وإزالة الضرر وسائر الأفضال، والرأفة دفع المكروه والضرر، ودفعهما أهم من جلب الرزف مثلا، فقدمت لذلك على الرحمة، فهى تخلية متقدمة على التحلية، أو الرأفة دفع المضار، والرحمة جلب المسار.