خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ
٣٧
إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ
٣٨
أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ
٣٩
-طه

تيسير التفسير

{ ولَقَد مننَّا عليْكَ مرةً أخْرى } غير هذه المرة قبل ان تدعونى، وكيف لا أجيبك فى هذه المرة، وقد دعوتنى، وذكر المرة الأخرى فى قوله:
{ إِذ أوْحَينا إلى أمك ما يُوحَى } الخ وأصل المرة المرور الوحد، ثم أطلق على كل فعلة واحدة، ثم شاع فى كل فرد مما له أفراد، واستعمل فى الزمان، والمراد هنا الزمان الممتد قدر ما يقع فيه خارجا ما ذكر الله عز وجل من الإيحاء الى أم موسى الخ، وأخرى مؤنث آخر بفتح الخاء، بمعنى مغاير، وإذ متعلق بمننا بلا واسطة إبدال من مرة، أو بواسطته، والإيحاء الى أم موسى إلهام عند الجمهور كقوله عز وجل:
" { وأوحى ربك إلى النحل } " [النحل: 68] ولا يرده قوله تعالى: " { إنا رادُّوه إليك } " [القصص: 7] الخ إذ لا نسلم أن الإخبار بالرد، ويجعله من المرسلين مختص بالوحى، لجواز أن يكون إلهاماً مع مشاهدتها منه ما يدل عل الرد، والجعل كما سمى عبد المطلب ابن ابنه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال: رجوت له أن يحمد فى السماء والأرض، لما رأيت فيه من تعاطى خصال الشرف.
ويمكن أن يكون بعث الله إليها ملكاً كما أرسله الى مريم عليها السلام، لا على طريق الوحى بالشرع الى الأنبياء، بلا إشكال لأن الوحى تارة وحتى شرع الى الأنبياء، وتارة غيرة، وقيل الوحى فى الآية الإرادة فى النوم، وقيل وحى على لسان نبى فى زمانها وهو شعيب، لو كان فى مدين لا فى الشام، كقوله تعالى:
" { وإذ أوحيت إلى الحواريين } " [المائدة: 111] فإنه وحى إلى عيسى عليه السلام، واسمها يحانذ أو محيانة بنت يصهر ابن لاوى، أو بارخا أو بازخت، المراد بما يوحى القذف فى اليم، أو ما ينبغى أن يوحى، ولا يهمل كما يقال هذا مما يكتب، أو أوحينا ما لا يعلم إلا بالوحى، والأول أولى.
لكن لو كان كذلك لقال: ما أوحينا كما قال:
" { فأوحى إلى عبده ما أوحى } " [النجم: 10] وكما قال: " { فغشيهم من اليم ما غشيهم } " [طه: 78] وعلى هذا يكون المعنى الثانى أولى، ولو كان الأول أنسب بالمعانى السابقة المرادة بالإيحاء، إذ بالوحى إليها إجمالا فتتهيأ نفسه الى الاستعداد لفهمه، ثم فصله تفصيلا يجد أنفساً متهيئة فيقر فيها، وفسر الوحى بقوله:
{ أن اقْذِفيه } ضعيه بلين { فى التَّابوت } فرشاً فرشته بقطن محلوج، أو نطع وكان من خشب، أو برد صنعه مؤمن آل فرعون، وقصصته وقيرته { فاقذفيه } أى ضعى التابوت وفيه موسى بلين { فى اليمّ } البحر ولا داعى الى جعل هذا القذف الثانى قذفا بعنف، ويجوز أن يكون القذفان بعنف على معنى العجلة فيهما، واليم البحر مطلقاً، وقيل العذب، وقيل النيل خاصة، وهو مردود، ولا يجمع لفظ اليم.
{ فلْيُلقِه اليمُّ بالسَّاحل } جانب البحر، أو ما يقابل الوسط، وهو ما يلى الجانب من البحر، حيث يجرى الماء الى نهر فرعون، وعلى كل هو بمعنى الذى يسحله الماء آى يقشره، فهو فاعل بمعنى مفعول أو للنسب أى ذى سحل، لكن هذا السحل واقع عليه لا صادر منه، فهو راجع الى معنى مفعول، ويجوز أن يكون بمعنى فاعل على معنى يفرق الماء، أو على معنى ينهق تشبيها لصوت الماء عليه بسحيل الحمار، أى نهيقه، واختير صيغة الأمر مع أن المراد الإخبار للمبالغة، كقوله صلى الله عليه وسلم:
"قوموا فالأصل لكم" وقد اعتبر معنى الأمر حتى جزم فى جوابه، وهو قوله عز وجل:
{ يأخُذه عدوّ لى وعدوّ له } أو لما قضى الله عز وجل أن يلقيه اليم، كان قضاؤه كأمر للبحر، جعل البحر كالمتميز الممتثل للأمر، تشبيهاً مصغراً مرموزاً إليه باللازم، وهو الأمر فإن المميز لا يؤمر، فإثبات الأمر تخييل، وهاءات اقذفيه الى قوله: { وعدو له } لموسى، ولو صلح ما قبل عدو له للتابوت، لأن المقصود بالذات موسى، وعليه الكلام، وفى ذلك عدم تفكيك الضمائر، وهو أولى، وقيل عائدات للتابوت إلا هاء { عدو له }.
وقال بعض: إن هاء يأخذه لموسى أيضا، وفيه أنه لا فرق بينها وبين سائر الهاءات سوى قرنه بعداوة، كالذى قبله، ولا يتعين عود الضمير للأقرب إذ ترجح عوده لغيره لحكمة، ككون المراد بالذات موسى، وأعاد العدو للمبالغة بذكر عداوتين، إذ لم يقل عدو لى وله، ولو قاله لصح، وليس فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، فضلا عن أن يخرج على عموم المجاز، لأن فرعون عدو لله حين الأخذ، وعدو لموسى أيضا إذ كان يبغض الأولاد لما علم أن ملكه يزول على يد ولد، فلا حاجة الى ما قيل إنه عدو لله فى الحين ولموسى فى ما بعد.
{ وألْقيتُ علَيْك محبةً منِّى } نعت محبة، أو متعلق بألقيت، ولا يمنعه عمل عامل فى ضميرين لواحد، لأن أحدهما بجار، والمراد محبة عظيمة، ما بالك بشىء هو من الله بإخباره أنه من الله عز وجل، كل من رآه أحبه، ولا يصبر عنه كحال عينيه، ومسحة جمال عليه فى جميع أعضائه، وقيل ذلك الحب حب الله إياه ألقاه فى القلوب إنعاماً عليه، لا على طريق الثواب، لأنه وليد لا عمل له إذا أحب الله عبداً ألقى حبه فى القلوب، ولعله لما سيعمل رأى التابوت هو وزوجه من موضع مشرف على النيل، على رأس بركة فى بستان فى الساحل، فأمر به ففتح فإذا صبى أصبح الناس وجهاً.
وقيل إن التابوت جاء الى المشرعة التى تستقى منها جوارى فرعون، فحطن به يحسبنه مالاً، وطلبت أن يتخذه ولداً، وقد أخذ جماله بمجامع قلبها وقلبه، وقالت: إنه قرة عين لى ولك، فقال لها: لك ولا حاجة لى فيه، وقد أخذ حبه بقلبه إذ رآه إلا أنه كتم ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:
" لو قال مثلها لهداه الله به كما هداها به" كما روى عن ابن عباس وفى حضرته حين رآه أربعمائة غلام وجارية، وقال من أخذه فهو حر، فأخذه واحد وأعتق الكل.
{ ولتُصْنع على عَيْنى } عطف على المحذوف المتعلق بألقيت، أى وألقيت عليك المحبة لتكون محبوباً عند كسل من رأك، ولتصنع على عينى، أو ليتعطف عليك، ولتصنع على عينى أو متعلق بالمحذوف المعطوف على ألقيت أى فعلت ذلك الإلقاء لتصنع، ومعنى تصنع تكرم، أو تفعل بك الصنيعة، وهى الإحسان، وهو أن يربى بالحنو والشفقة والإرضاع الحسن، وعلى عينى حال من ضمير تصنع، ومعناه بمرأى منى، وذلك على الاستعارة التمثيلية للحفظ والصون، فإن المصون يراعى ويراقب، كما يراقب الشىء بالعين، ويحضر عنده إذا اعتنى به، وهذا إكرام وتخصيص.
وليس المراد مطلق كونه بالله فضلا عن أن يرد أن كل أحد كذلك، بل لو أريد هذا لقيل إنه خصت هذه العبارة بموسى، ولو كان معناها لغيره أيضا تشريفاً، كما خص الكعبة ببيت الله، وكل بيت لله تعالى.