خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ
١٩٨
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَٰشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلـٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
١٩٩
-آل عمران

تيسير التفسير

{ لَكِنِ } استدراك لرفع ما يوهم أن التجارة مطلقاً توجب جهنم، فأخبر أن للمؤمنين الجنة، ولو اتجروا، وبأن جوعهم وبؤسهم إنما هو لكسب ما هو أعظم من نعم الدنيا وهو الجنة، وعلماء المعانى يقولون لكن لقصر القلب، ورد اعتقاد المخاطب أن المؤمنين البائسين فى خسران عظيم لا دنيا لهم ولا جنة لكفرهم بالجنة { الَّذِينَ اتَقُّوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ } يدخلونها يوم القيامة مقدرين الخلود { فِيهَا } وأما من الآن فلا يوقنون أنهم من أهلها لخوف الخاتمة فى حق كل واحد ممن لهم يجىء فيه الوحى، ويجوز إثبات التقدير للخلود بلا حذف على رسم فرض السعادة أى تثبت لهم، أَي لأهل صفتهم، ناوين أنهم يخلدون فيها إن كانوا من أهلها { نُزُلاً } حال من المستتر فى لهم، العائد إلى جنات، شبهها بما يُعدّ للنازل من طعام وشراب وصلة، فلا تزال تزداد خيراً بلا نهاية بعد ذلك، كما يحتفل للنازل بعد ينزل عليه فجأة كل يوم فى الجنة خير مما قبله أبدا، ومعناه معد ومهيأ على عجل، ولا يصح أنه حال من جنات، لأن جنات مبتدأ، والحال لا يصح قيداً للابتداء الذى هو العامل، ويجوز أن يكون حالا من ضمير جنات المستتر فى لهم، أى ذات نُزُل أو هو جمع نازل على غير قياس، حال من المستتر فى خالدين، أو يقدر أنزلوها نزلا من عند الله، أى نزولا على أنه مفول مطلق { مِّنْ عِندَ اللهِ } وما بالك بشىء من الله قابل به وليه مضاد به عدوه { وَمَا عِندَ اللهِ } من ثواب الجنة لكثرته وعظمه وهنائه ودوامه { خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ } مما للكفار من متاع الدنيا لقلته وحقارته وتنغصه وفنائه، أظهر اسمهم بلفظ الأبرار إشعاراً بأن أعمالهم تقوى وبر، وانها سبب الثواب، روى ابن عباس: أنه مات النجاشى، ملك الحبشة، فأخبر جبريل عليه السلام النبى صلى الله عليه وسلم بموته فى يومه، فقال للصحابه، "اخرجوا، صلوا على أخ لكم بأرض الحبشة مات، وكشف له عن سريره، وكبر عليه أربعاً واستغفر له" ، فقال المنافقون إنه صلى على حبشى نصرانى لم يره قط، وليس على دينه فنزل قوله تعالى:
{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ } كالنجاشى المذكور بكسر النون وفتحها وإسكان الياء وشدها لغتان، وقيل الشد غلط، لأنه ليس نسبا وشد الجيم غلط لا غير، واسمه أصحمة بفتح الهمزة وإسكان الصاد وفتح الحاء، والتاء زائدة من العربية أى عطية الله، وقيل عطية الصنم، والحبشة يقولونه بالخاء المعجمة، والقول بأن اسمه مكحول ابن صعصعة خطأ، لأن هذا اللفظ عربى وأسلم قبل الفتح، ومات أيضاً قبله فى رجب عام تسعة، وكعبد الله بن سلام من اليهود وأربعين من نصارى نجران من بنى الحارث بن كعب، وهم من العرب، واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم على دين عيسى آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه حجة للصلاة على الغائب، لأن ولو كشف له صلى الله عليه وسلم لم يكشف للصحابة، وقالت الحنفية إنه لا يصلى على غائب، وأن ذلك مخصوص بالنبى صلى الله عليه وسلم مع النجاشى تكريماً له، ألا ترى أنه لم يصل على غيره من الغائبين { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ } من القرآن وغيره { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } من التوراة والإنجيل وغير ذلك، قدم ما انزل إلينا مع تأخره عما أنزل إليهم لأنه المعيار، لا عبرة بإيمانهم إن لم يوافقوه، ولأن ما أنزل إليهم قد نسخ بعضه بالقرآن وقد حرفوه، فإنما يعتبر ما صححه القرآن ولتعجيل مسرة المؤمنين، بذكر ما أنزل إليهم { خَاشِعِينَ لِلهِ } خاشعين حال من ضمير يؤمن، مراعاة لمعناه، وهو الجمع ومن هاء إليهم، والخشوع بعد النزول، والخشوع الخضوع، أو الخوف والتذلل أو الخوف اللازم للقلب، قيل تحرز به عن إيمان المنافقين، لأنه لخوف القتل لا لله، ويبحث بأنه لا يشمل الإيمان{ لاَ يَشْتَرُونَ بِأيآتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً } من الدنيا خوفاً من زوال الرياسة إن لم يكتموا، ووصف القلة لأن ما أخذوه بدلا من دين الله قليل ولو الدنيا كلها، وتعريضاً بخستهم إذ باعوا الدائم الكثير الذى فى غاية الجودة بما هوعكس ذلك { أَوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ } مرتين بما صبروا، يؤتكم كفلين من رحمته { عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ سَرِيعُ الحِسَابِ } يحاسب فى لحظة، أو فى يوم، وهو قادر على أقل، فلزم من ذلك سرعة وصول الثواب إليهم إذا وضع الحساب.