خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ
١٠
-سبأ

تيسير التفسير

{ ولقَد آتيْنا دَاود منَّا فضْلا } من للابتداء متعلق بآتينا أو بمحذوف حال من فضلا، والفضل زيادة الخير الدينى والدنيوى على ما عنده قبله، وليس المراد تفضيله على غيره، ونكر فضلا للتعظيم، وذكر منَّا مع أنه يغنى عنه آينا لتفخيم ما أوتى بأنه بلا واسطة، كقوله تعالى: " { وعلمناه من لدنا علماً } " [الكهف: 65] وقدم منَّا على فضلا على طريق الاعتناء به، والاهتمام وللتشويق الى المؤخر ليزداد تمكنه فى النفس عند وروده.
وأقوال: لا يسند الاعتناء والاهتمام الى الله سبحانه، ولذلك كنت أقول على طريق الاهتمام والاعتناء، لأن فى أصلهما علاجا وكسبا وتعبا، وما ذكرته أولى من أن يقال فضلا على من قبله من النبيين كالملك، والصوت الحسن، أو على أنبياء بنى اسرائيل، أو على الأنبياء غير نبينا صلى الله عليه وسلم، أو عليه أيضا من حيث انه قد يكون للمفضول شىء ليس للفاضل، وذكر هنا شئون داود وسليمان لمناسبة
" { عبد منيب } " [سبأ: 9] ولأن ما أعطاهما مستحيل عادة، فكذلك يقدر على البعث الذى تعدونه مستحيلا، وللزجر عن أن يستبعدوا ما أعطى صلى الله عليه وسلم فانه قد أعطى داود وسليمان ما أعطى، وما أوتى نبى فضيلة إلا أوتى نبينا مثلها بالفعل، أو تمكن منها، واختار عدم إظهارها صلى الله عليه وسلم.
{ يا جبال أوبي مَعَه } إلخ بيان للفضل، والتأويب التسبيح كما قال ابن عباس: وهو لفظ عربى، لا كما قال الطبرى عن أبى ميسرة: إنه بلغة الحبشة، وقيل: بمعنى رجِّعى معه التسبيح، أى ردديه فيكون بينكما يسبح، وتسبحين، والتشديد للمبالغة، والأصل أوبى باسكان الواو بعد ضمة كما قرأ به ابن عباس والحسن وقتادة، أى ارجعى معه الى التسبيح، ليس تفسيره بالمتعدى موجبا لأن يكون متعديا كما قالوا: هنا معناه رجعى معه التسبيح، فانه إنما هذا بيان لكون التسبيح فى ضمنه، كما تقول: معنى ذهب زيد، نقل زيد نفسه، وإلا قيل: أوبى التسبيح، وهم لم يقولوه.
والجبال تسبِّح بصوت يسمع بقدرة الله، وخلق فيها الفهم، وأمرها كما يؤمر العاقل، وناداها كما ينادى العاقل، وقد سبَّح الحصى فى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعها فى يد الصديق فسبحَّت، وليس المعنى حملها إياه بالتفكر فى شأنها على التسبيح، لأنه قال: { أوبي } بصيغة الأمر، لا أوبْته، ولأنه قال معه، ولأن كل من تأمل فى الجبال أداه تأمله الى التسبيح لا داود فقط، فلا يكون معجزة له، ولا مفضلا به.
وقيل: تاويبها رد صداه إذا سبح نائحا على نفسه، ويبحث بأن الصدى أثر صوت الصائت لا صوت، وفعل لنحو الجبل، والله أمرها أن تغفل الصوت، لأن الصدى يرجع أيضا لكل أحد، اللهم إلا أن يقال ترد له الصدى بأمر الله سبحانه، ولو لم يشدد الصوت، وقيل: سيرى حيث سار، وهو خلاف الظاهر أيضا لأنها تقارع الناس وغيرهم، ولأنها أوتاد الأرض، وأيضا أتبقى أو ترجع لأماكنها، أو تسر فى رجوعه معه الى جهة مسكنه، وترجع الى أماكنها، ولو كان الله قادرا أن يمسك الأرض بدونها، وقيل: المعنى أطيعه فيما أراد فيك من حفر واستنباط عين ومعدن، ووضع طريق، وفيه أنه خلاف الظاهر مشارك فيه، وضمير المفرد المؤنث لجماعة جبال مخصوصة، وهى جبال أرض هو فيها من الشام، لأن اللفظ نكرة مقصودة، وذلك مفعول لحال محذوف من فاعل فضل، أى قائلين: يا جبال.
{ والطَّير } عطف على محل المنادى عند سيبويه، ولو كان حرف النداء لا يدخل على المعرف بأل، ورب شىء يصح تبعا لا استقلالا، قال الشاعر:

ألا يا زيد والضحاك سيرا

بنصب الضحاك، أو يعطف على فضلا، أو يقدر وسخرنا له الطير، وهو فى التسخير أظهر، وهو أوضح من الاقتصار فى اللفظ على إيتائها فى العطف على فضلا، وعطفه الكسائى على فضلا، وقدر مضافا، أى وتسبيح الطير، وهو تقدير أظهر فى الإيتاء من مطلق الإيتاء، وقال الزجاج: مفعول معه،ورد بأنه يتكرر مع قوله: { معه } بلا عطف ولا إبدال، وهود متجه، سواء علق معه بأوبى أو بمحذوف حال من الياء، والمعتبر المعنى لا خصوص لفظ مع، فان واو المعية مثله نعم قد يجوز فى الحالية لمغايرة لفظ الاستقرار المقدر للعامل، والمراد بالطير الجنس.
{ وألنَّا لهُ الحديدَ } كالطين والشمع، يصرفه الى أى صورة شاء بلا نار ومطرقة، وقيل: إن المعنى جعلنا الحديد بالنسبة الى قوته التى آتيناه إياها لينا كالشمع، بالنسبة الى قوى سائر البشر، وهذا ضعيف لأنه يفيد أنه يعالج قوة الحديد، وتسهل عليه، ونحن نقول: لا علاج قوة له، بل وضع له اللين فى الحديد، وإن لم يرد هذه المعالجة كما دل له التشبيه الذى يقدرون فى الآية كما قدرته، فهو القول الأول.