{ وجاء مِن أَقْصَى المَدينَة } أنطاكية، أى من أبعد موضع فيها { رجلٌ } عظيم عند الله قدرا، لا اتصال له بالرسل، قبل مجيئهم يتواطؤ لأجله معهم، بل هداية من الله ولطف به، وهو حبيب عند ابن عباس وكعب رضى الله عنهما، وشهر بأنه حبيب النجار، وقيل: رجل قصار، وقيل: حراث وقيل: إسكاف، وقيل: نحات للأصنام، اى يعمل صورها بدون أن يعبدها، والتصوير ولو للحيوان جائز فى تلك الأمم، وإن كانت للعبادة فذلك قبل أن يؤمن، ولعله جمع تلك الصفات كلها، وروى أنه كان فى غار يعبد الله، فنقول: هذا الغار فى أقصى المدينة، وهذه العبادة بعد كفره، إن سبق له كفر.
وعنه صلى الله عليه وسلم: " "سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا قط طرفة عين: على بن أبى طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون" وصاحب يس هو هذا، ولا يقال يشكل على ذكر على أنه كان طفلا ذا ثمانى سنين، ودعاه النبى صلى الله عليه وسلم الى الإيمان، فقال لأبى طالب: إن محمدا يدعونى؟ قال فأجبه، لأنا نقول لا كفر للطفل، فهو مؤمن من قبل، لكن ذكر لأبيه الدعوة، أو هو ذاهل، وقيل: كان أول الاسلام التكليف متعلقا بالتمييز، والامام على حينئذ مميز.
وروى أن هذا الرجل المذكور فى الآية كان مؤمنا بالنبى صلى الله عليه وسلم، كتبع الأكبر، وورقة قبل مبعثه، كما يؤمن به كل من رآه فى التوراة أو الإنجيل أو غيرهما، ويقال: كان مجذوما، فمنزلة أقصى أبواب المدينة، عبد الأصنام سبعين سنة، فدعاه المرسلون فقال: هل من آية؟ قالوا: يشفيك الله تعالى، قال: دعوت الأصنام سبعين سنة ولم تشفن فكيف يشفينى ربكم فى غدوة أو روحة؟ قالوا: عاجزة، وربنا قادر، فدعوا له فشفاه الله عز وجل، فقام يكسب ويتصدق بنصف ما يكسب، وينفق نصفا على نفسه وعياله.
ولعل معنى كونهم لم يكفروا قط، أنهم لم يكفروا بعد الدعوة، ونقول: أما الذى رواه فى قرب المدينة يرعى، فدعوه، فقال: هل من آية؟ فقالوا: نشفى المرضى، ونبرىء الأكمه والأبرص، فذهب بهم الى ابنه مريضا ومسحوا عليه، وشفاه الله، فهو غير هذا، وان كان هو فمعنى إيمانه أنه أظهره، وقدم من أقصى هنا مع فضل الرجل بالإيمان تفننا فى البلاغة، ولأنه لو أخر لتوهم أنه متعلق يسعى فيفوت بيان أنه من أهل المدينة، وتقديمه ظاهر فى أنه من اهلها، ولو لم يكن نصا فيه، ولبيان أن بعده لم يمنعه من الإيمان وكون رحمته تعالى تسع القريب والبعيد، ولذا عبر بالمدينة بعد التعبير بالقرية، إذ صارت بانضمام الأطراف مدينة، ولبيان أن انذراهم بلغ أقصى المدينة لاجتهادهم فى التبليغ بالإظهار.
{ يَسْعَى } يسرع برجليه، أو بشدة قصد من قلبه، ولا يخفى أن الأول أولى لأنه حقيقة لا مجاز، مع أنه متضمن للمعنى المجازى أيضا لأن السعى بالمشى فى أمر انما يكون عن سعى القلب فيه.
{ قال يا قوم اتَّبعُوا المُرْسَلين } ذكرهم بالرسالة حثا على الإيمان، إذ لم يقل: اتبعوا هؤلاء الرجال، أو هؤلاء الذين جاءوكم، كما أنه خاطبهم بقوم مضافا لنفسه اشارة الى أنه يحب لهم الخير لا الشر، كما يحبه لنفسه وهو منهم، وشرهم شر له، وأنه ناصح لهم كما ينصح الإنسان نفسه.