{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ } فرغتم منها، فالقضاء يستعمل بمعنى التأدية فى الوقت كما يستعمل فيها بعد الوقت، كقوله تعالى: { { فإذا قضيتم مناسككم } [البقرة: 200]، والمراد الصلاة الواجبة، وذكر صلاة النفل وسائر الذكر لله عز وجل على كل حال بقوله { فَاذْكُرُو اللهَ قِيَاماً } جمع قائم { وَقُعُوداً } ولو قدرتم على القيام جمع قاعد { وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } أى وثابتين، أو مضجعين على جنوبكم؟ قدرتم على القعود أو القيام أو لم تقدروا، لخوف أو جراح أو مرض، والمراد الجنب الأيمن من الاستقبال فى الصلاة بالوجه والجسد، وإن لم يمكن إلا على الأيسر جاز، وكل ما لم يمكن إلا هو جاز ولو لم يجز فى الاختيار، وينوى الاستقبال، وأما الفرض فلا يجوز فى قعود أو اضطجاع إلا لضرورة خوف أو مرض أو جرح أو نحو ذلك من الأعذار، ويصليها ولا بد كما أمكنه، ولا يؤخرها عن الوقت عندنا وعند الشافعى، ويومئ لما فيه إيماء وهو الركوع والسجود، وأما التحيات فلا إيماء لها، ولو أومأ لها بانحناء لفسدت صورة قعودها، فإنها يقعد لها على استقامة كما يقعد الصحيح، فيلغز بأن لنا ركوعا أخفض من التحيات، وهو ركوع المصلى بإيماء:
وَإذَا لَمْ تَرَ الْهِلاِّلَ فَسَلِّمْ لأُِنَاسٍ رَأَوْهُ بِالأَبْصَارَ
ثم قد رجعت فى الخطبة المؤلفة بعد هذا عما هنا، ويجوز أن يكون المعنى، فإذا أردتم قضاء الصلاة فى أدائها فاذكروا الله، أى صلوا قائمين صلاة المسايفة إن لم تجدوا الصلاة طائفتين مع الإمام، واحدة بعد الأخرى، أو قاعدين رامين بالسهام أو مضطجعين لعدم القدرة بالجراح، ولا قضا بعد ذلك ولا إعادة فى الوقت ولو زال العذر، وقال الشافعى بوجوب القضاء بعد الوقت الإعادة فيه إذا زال العذر لقوله تعالى { فَإِذَا اطْمَأَنَنتُمْ فَأَقِيُموا الصَّلاَةَ } اقضوها بعد الوقت وأعيدوها فى الوقت إن زال العذر، والمذهب أنه لا إعادة ولا قضاء، ونسبه بعض المحققين للشافعى، وإن صلوها لمظنه خوف كسواد رأوه فتبين فى الوقت عدمه فليعيدوها، وأن المعنى إذا زال العذر فصلوا الصلوات الآتية بعده تامات بشروطها وشطورها، وزعم أبو حنيفة أن المحارب لا يصلى حتى يطمئن، وأن معنى الآية ذلك، وليس كذلك، بل يصلى كما أمكنه، ولو بتكييفها فى قلبه من حيث أعمالها، وأما أقوالها فلا بد منها ما امكن، والحجة قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بشىء فائتوا منه ما استطعتم" ، ولأنه صلى الله عليه وسلم أمر رجلا بقتل كافر، فذهب إلى قتله وهو يصلى فى ذهابه إليه بذكر وإيماء خوف أن يموت ولم يصل، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينهه، قال ابن عباس رضى الله عنهما عقب تفسير الآية، لم يعذر الله تعالى أحداً فى ترك ذكره إلا المغلوب على عقله، يعنى من ترك ذكره تعالى عده الله مقصراً { إنَّ الصَّلاَةَ كانتَ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً } فرضاً، لما جرى فى العرف أن الشىء يكتب لأنه لا بد منه ولو كان قد لا يجب استعمل الكتاب فى معنى الفرض فى مكتوبه أو ذات كَتْب { مَّوْقُوتاً } أى محدوداً لا تترك ولا تقدم ولا تؤخر، وأنه يؤتى بها كيف ما أمكن ولو فى طعان أو مسايفة، والمراد محدودة بأوقاتها وشروطها وعدد ركعاتها فى الحضر والسفر والخوف، لا يزاد فيها حال السفر، ولا ينقص فى الحضر والسفر، وتقدم أن أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد، موعدكم بدر من قابل إن شئت يا محمد، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن شاء الله" ، فخرج صلى الله عليه وسلم من قابل وقد وهنوا لما أصابهم فى أحد ولم يخرج هو وفى ذلك نزل قوله تعالى:
{ وَلاَ تَهِنُوا } تضعفوا { فِى ابْتِغَآءِ } طلب { القَوْمِ } الكفار بالقتال { إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ } إلخ تشجيع للصحابة رضى الله عنهم وتعليل لقوله تعالى: { ولا تهنوا }، لأنه أصابهم مثل ما أصابكم، فصبروا، فكيف لا تصبرون أنتم، مع أن لكم لا لهم عاقبة الخير فى الدنيا والأخرى، وأنتم على الهدى وهم على الباطل، والآية فى الذهاب إلى بدر الصغرى لموعد أبى سفيان يوم أحد للقتال، ألا ترى قوله فى ابتغاء القوم، إذ ثقل عليهم القتال ثانياً، أويوم أحد فى الذهاب خلف أبى سفيان وعسكره ليقاتلوه فى حمراء الأسد { فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كمآ تَأْلَمُونَ } فلا يحسن لكم أن يرد التألم عنه وهم لا يردهم { وَتَرْجُونَ مِنّ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } من الجنة والنصر على القتال فيجب أن تكونوا اصبر منهم عليه، وأرغب فيه، وعبارة بعض أنها نزلت فى الذهاب إلى بدر الصغرى لموعد أبى سفيان يوم أحد وقيل نزلت يوم أحد فى الذهاب خلف أبى سفيان وعسكره إلى حمراء الأسد وهو مروى عن عكرمة { وَكَانَ اللهُ عَلِيماً } بأحوالكم وضمائركم { حَكِيماً } فيما يأمر به وما ينهى عنه، وسرق طعمة بن أبيرق، بصيغة التضمير
الأنصارى، من بنى ظفر درعا وحده فىحراب فيه دقيق، من جاره قتادة ابن النعمان، وخبأها عند زيد بن السمين اليهودى وديعة عنده، ووجدوا أثراً لدقيق متناثراً، فقال أصحابه نتبع أثر الدقيق، فوجدوه فى دار اليهودى، فقال: وضعه عندى طعمة، وشهد له قومه فأنكر طعمة، وحلف طعمة أنى ما وضعته عنده وما سرقته، وعزم قومه أن يشهدوا له، أن اليهودى هو السارق وفعلوا، وسألوه صلى الله عليه وسلم أن يجادل عن طعمة، فهم صلى الله عليه وسلم بقطعه فأعلمه الله أن السارق طعمة، فهم بقطعه فارتد، فهرب إلى مكة، ونقب فيها حائطاً ليسرق فوقع عليه فمات، وقيل ركب سفينة إلى جده فسرق فيها كيساً فيه دنانير فألقوه فى البحر، وقيل لحق بقريش فنقب غرفة للحجاج فأخرجوه، فلحق بركب من قضاعة فقال إنى ابن سبيل، فحملوه وسرق منهم وهرب فأدركوه، فقتلوه رجما، وقيل نزل على الحجاج المذكور وهو الحجاج بن علاط، فنقب بيته ليسرق فقطن به، فقال صيفة وابن عمى تريد أن تسرق منى فأخرجه، ومات بحرة بنى سالم وفى جميع ذلك مات كافراً مرتدا وفيه نزل قوله تعالى:
{ إنَّآ أَنزَلْنآ إلَيْكَ الكِتَابَ لِتَحكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللهُ } بما عرفك الله بالوحى { وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنينَ } لأجل الخائنين ونفعهم، أو عن الخائنين وهم بنو أبيرق أو طعمة ومن معه، أو للخائينين مطلقاً، والعطف عطف إنشاء على إخبار، أو على محذوف، أى احكم بالحق ولا تكن، أويقدر قول، أى قلنا إنا أنزلنا، فإنه لا إشكال فى قولنا ولا تكن الخ { خَصِيماً } على خصمهم، أو لا تكن خصيما ثابتاً لهم على خصمهم، زجر له صلى الله عليه وسلم عما ظهر له ومال إليه من تبرئه طعمة والاقتصار على تحليفه والحكم على اليهودى لوجود الدرع عنده، وبطلان شهادة المشركين له على المسلم، وذلك كله حق بحسب ما ظهر له صلى الله عليه وسلم، وهو الذى كلف الله به العباد، إلا أن الله سبحانه بين له صلى الله عليه وسلم أن اليهودى برىء، وأن طعمة هو السارق، ونهاه أن يحكم على اليهودى، فجرى على هذا الغيب الذى أخبره به، ولو لم يخبره الله به لجرى على ذلك الذى ظهر له من الحكم على اليهودى وكان محقا، له أجران، لأنه مصيب فيما كلف به، كما فى سائر حكمه بحسب ما ظهر له، وقوله إنى آخذ جذوة من نار لمن حكت له بغير حقه، لظاهر الأمر، وهو عالم بأن الحق ليس له.