خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
٢١
-الجاثية

تيسير التفسير

{ أمْ حَسِب } إضرابٌ انتقالى توبيخى انكارى الى بيان حال المسيئين وحال المحسنين بالايمان، والعمل بعد بيان حال الظالمين والمتقين أنهم لا يستوون، وانما تغايرهم بعنوان الظلم والاتقاء، وكسب للسيئات، والايمان، والعمل الصالح، والا فالمجترحون للسيئات هم الظالمون، والمؤمنون العاملون هم المتقون { الَّذين اجْتَرحوا } اكتسبوا، ومنه تسمية الأعضاء جوارح، وقولهم فلان جارحة أهله، أى كاسب لهم، وكلب الصيد وطائر الصيد جارحة أنه يكسب لسيده { السِّيئات } سيئات الشرك.
روى قومنا: أن عتبه وابنه الوليد وشيبة قالوا لعلى وحمزة والمؤمنين: والله ما أنتم على شىء، ولئن كان ما تقولون حقا لحالنا أفضل من حالكم يوم القيامة، كما هو أفضل فى الدنيا، فنزلت الآية رداً عليهم، ويؤخذ من ذلك حكم الموحد الفاسق، والموحد الموفى فالفاسق فى النار، والموفى فى الجنة، ولا مانع من حمل الآية عليهما وعلى المشرك، وعلى هذا ففيها زيادة اقناط المشركين اذا كان الموحد الفاسق فى النار، فالمشرك أولى بها، وكذا إن حملت على الموحد المجترح للسيئات التائب، والموحد الموفى، ولا يعارض شمولهما قوله: { ساء ما يحكمون } إذ لا مانع من أن يقال للموحد المخطىء فى حكمه: ساء ما يحكم، وقد تمثل بالآية تميم الدارى، والربيع بن خيثم ونحوهما للموحد الفاسق، والموحد الموفى، مع ابقائها فى أهل الشرك، أو حملوها على العموم فيها، وفى المشرك، أو فسروها بهما، قال أبو الضحا: قرأ تميم الدارى سورة الجاثية، فلما أتى على قوله: { أم حسب الذين } الخ لم يزل يبكى ويكررها حتى أصبح عند المقام.
قال مسروق: قال لى رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الدارى، ولقد رأيته ذات ليلة قائما لها حتى أصبح، أو قرب أن يصبح، يقرأ آية من كتاب الله عز وجل، يركع بها، يركع عنها أو يصلى بها، لورود النهى عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود، أو جاز ذلك فى النفل، وروى ابن أبى شيبة، عن بشير مولى الربيع بن خيثم: أن الربيع كان يصلى فمر بهذه الآية: { أم حسب } الخ فكررها حتى أصبح، وكان الفضيل بن عياض اذا قرأها قال لنفسه: ليت شعرى من أى الفريقين أنت؟ وكان الخائفون يبكون لهذه الآية، حتى انها تسمى مبكاة العابدين.
ويؤخذ بالقياس أن الموحد المستغرق فى السيئات، التائب لا يساوى العبد غير المستغرق فيها، إلا إن كان أمر خارج أفضى الى المساواة أو العكس، فان حاصل الآية مقابلة كل أحد بعمله، إذ قال: { أم حسب الذين اجترحوا السيئات }.
{ أنْ نَجعَلهُم كالَّذين آمنُوا وعملوا الصالحات } فى دخول الجنة كلا، لا يدخلها مشرك، ولا يترك عقابه، أو فى استواء درجات الموحدين لا، ومصدر نجعل مفعول به لحسب، ولما اشتمل الفعل على المسند والمسند اليه قبل التأويل بالمصدر اكتفى به عن المفعولين أو حذف الثانى وجوبا، أى سواء جعلهم كالذين آمنوا ثابتاً، وهكذا فى مثل هذا المقام { سواء } خبر مقدم، لأنه نكرة { مَحياهم } مبتدأ لأنه معرفة والهاء فيه وفى قوله: { وممَاتُهم } للذين اجترحوا السيئات وجاز أن تكون للمؤمنين، وأن تكون للفريقين، والجملة بدل من الكاف على أنها اسم، أو من ثابتين بدل اشتمال بدل جملة من مفرد، أجازه الفارسى وابن مالك، ولا أقول بذلك، بل نقدر الاستقرار فعلا، أى يثبتون أو ثبتوا، تكون الجملة بدلا من الجملة أو نبدلها من الجار والمجرور لنيابتهما عن الجملة المقدرة، أو هذه الجملة مفعول ثان بعد مفعول ثان، كما يتعدد خبر المبتدأ تقول: علمت زيدا عالما عاقلا، ولا مانع من أن يقال: نصيرهم كالذين آمنوا ونصير محياهم ومماتهم سواء.
وأجيز أن تكون بدل بعض أو كل لأنهما كما يكونان فى المفرد يكونان فى الجملة بلا ضمير يرجع للجملة، إذ لا يرجع الضمير للجملة، ويجوز أن تكون مستأنفة غير داخلة فى قوله: { أم حسب } بمعنى أنه لا بد من الانتصار للمظلوم من الظالم فى الدنيا والآخرة، بحسب الأصل، فان لم يكن فى الدنيا حال الحياة كان بعد الموت، ومعنى انتفاء استواء حياتهم ومماتهم، أنه لا يُرحم الكافرون كما يرحم المؤمنون، ولا يُعذب المؤمنون كما يعذب المشركون، ولو استووا فى الدنيا بالحياة ومطلق الرزق، والمؤمنون مرحومون دنيا وأخرى، والكفار دنيا فقط، وحياة المؤمن على الطاعة، والكافر على المعصية، وموت المؤمن بالرضوان، والكافر بالخذلان، ولا يستوى المؤمن والكافر فى الآخرة، كما استويا فى رزق الدنيا وحياتها، بل للكافر النار، للمؤمن الجنة { ساءَ ما يحْكمُون } ساء حكمهم بالمساواة على طريق الأخبار، ويجوز أن يكون إنشاء للذم والمخصوص محذوف أى ساء حكمهم.