خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٢٨
وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ
٢٩
-الأحقاف

تيسير التفسير

{ فَلولا } تحضيض على النصرة بسبيل الاعجاز { نَصَرهُم } منعهم من الهلاك { الَّذين اتَّخذوا مِن دون الله قُربانا آلهةً } الذين واقع على الأصنام، لأنها عندهم بمنزلة العقلاء، والروابط محذوف، أى اتخذوهم، وهذه الهاء المقدرة عائدة للأصنام، وهى مفعول أول وواو اتخذوا للكفار العابدين لها، وآلهة مفعول ثان وقربانا حال بمعنى متقربا بها، كما قالوا: " { ما نعبدهم إلاَّ ليقربونا إلى الله زُلفى } " [الزمر: 3] و " { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } " [يونس: 18] وأولى من ذلك أن يجعل قربانا مفعولا من أجله لسلامته من كون الحال مصدرا مأولا، ويجوز أن يجعل قربانا مفعولا به ثانيا، وآلهة بدلا منه، وفيه تأويل قربانا بمتقربا به، أو يقدر مضاف اولا، أى اتخذوا عبادتهم تقربا، ومن دون الله على هذا حال من آلهة، وانما قلت ذلك لأنه لا يتصور اتخاذهم الله قربانا اليه ولا الى غيره سبحانه وتعالى، بل يتقرب بغيره اليه، واذا علقنا من دون الله باتخذوا أو بمحذوف حالا من قربانا أَوْهَمَ أنه يتصور اتخاذ الله قربانا اليه أو الى غيره فنفى، اللهم الا أن يعتبر جواز التقرب بالله الى الله بمعنى التوسل به اليه، أو بعبادته، فحينئذ يعاب عليهم أنهم تقربوا الى الله بغيره، والواجب أن يتقربوا اليه به.
{ بل ضلوا عنْهُم } ضل عنهم الأصنام الذين عبدوهم، أى غابوا وفيهم تهكم ثان بأنهم لو لم يغيبوا لنصروهم، والأول فى قوله تعالى: "فلولا نصرهم" الخ بأنهم ممن يمكن منهم النصر لكن لا يقرون على رد أمر الله عز وجل، أو ضلوا ضاعوا عنهم إذ كانوا يؤمنون نصرهم فلم يجدوه كمن ضاع منه آلة عمله { وذلك } الضلال منهم { إفْكُهم } إثر كذبهم إذ زعموا أنها آلهة تشفع، ولولا اتخاذها آلهة شافعة لم يفتضحوا بضلالهم عنهم، وبطلانها، بل يجدون الله منجيا، ولا يتكلون عليها، لأنهم أعرضوا عنها، لأنه لا تنفع.
{ وما كانُوا يفْتَرون } ما مصدرية، والعطف على افكهم، أى وأثر كونه يكذبون على الله لا بعث ولا رسالة، أو افكهم صرف الشياطين وأنفسهم لهم عن الحق، باتخاذ لآلهة، وافتراؤهم كذبهم على الله، أو ما اسم أى والذى كانوا يفترون.
روى أنه صلى الله عليه وسلم لما اشتد عليه تكذيب قومه له، عمد الى رؤساء الطائف عبد ياليل، ومسعود، وحبيب اخوة ثلاثة أبوهم عمير، ودعاهم فقال أحدهم: ان كان الله أرسلك، والآخر ما وجد الله من يرسل غيرك، والثالث لا أكلمك ان كنت رسولا من الله تعالى فأنت أعظم من أن أرد عليك، والا فلست أهلا للخطاب، فقال صلى الله عليه وسلم:
"اكتموا عليَّ " خوفا من جرأة قريش عليه، فلم يفعلوا، بل صاحوا عليه، وأغروا عليه السفهاء ورجموه حتى التجأ الى شجرة عنب فى حائط شيبة وعتبه ابنى ربيعة، فقال: "اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس، فأنت رءوف، وأنت أرحم الراحمين، وأنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إنْ لم يكن لك علي غضبٌ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أنْ ينزل علي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلاَّ بك" .
وتحركت له رحم عتبة وشيبة، وأرسلا اليه عنبا فى طبق مع عداس، غلام نصرانى، فقال بسم الله وأكل، فنظر الى وجهه فقال: والله ما يقول أهل هذه البلاد هذا الكلام، فقال صلى الله عليه وسلم: "من أي بلد أنت وما دينك فقال نصراني من نينوى، فقال: من بلد الرجل الصالح يونس ابن متى؟ فقال: ما أدراك به، فقال: هو أخي نبي وأنا نبي" ، فقبل رأسه وقدميه ويديه، فقالا له، ويلك مالك؟ فقال: هو نبى أخبرنى بأمر لا يعرفه إلا نبى، فقالا: دينك أفضل من دينه، فقال: بل دينه أفضل، وانصرف آيسا من خير ثقيف، حتى اذا كان ببطن نخلة قام من جوف الليل يصلى فمر به نفر من جن نصيبين قاصدين اليمن، إذ منعوا من استراق السمع، كما قال الله عز وجل:
{ وإذ } اذكر إذ، ولا مانع من عطفه على أخا عاد { صَرفنا إليْك } وجهنا اليك { نفراً مِن الجن } هم هنا سبعة أو تسعة عشر، أو تسعة أو اثنا عشر ألفا روايات، ولعل صرف الجن وقع مرارا بحسب هذا العدد، تارة سبعة، وتارة تسعة، وتارة تسعة عشر، وتارة اثنى عشر ألفا، وشهر أن النفر ما بين الثلاثة والعشرة من النفير، وهم من يسرع عاجلا الى مهم دعوا اليه، ويسهل وجودهم، وذلك على الغالب، وقد يستعمل فى غيره، فانه يطلق على العشرة فى الفصيح، وذكر بعض اللغويين: أنه يستعمل الى الأربعين، وفى كلام الشعبى حدثنا بضع عشرة نفرا أى رجلا، ولا يختص بالرجال، ولا ببنى آدم، كما أطلق فى الآية على الجن، فنقول: حقيقة فيهم لا مجاز، كما هو حقيقة فى الناس.
قيل: الجن ثلاثة: صنف بأجنحة يطيرون، وصنف على صورة الحيات والكلاب، وصنف يحلون ويرحلون، وبقى قسم رابع يسكنون مع الناس فى بيوتهم وديارهم، وفى البيوت الخالية، فالأصناف أربعة، وفيه الثلاث والسبعون فرقة التى فى بنى آدم، وقد قيل: المصروفون فى الآية يهود، وأنهم أسلموا، وهم عند مشاهدتهم لا يتحولون، فاذا مال بصركم عنهم تحولوا الى صورة أخرى ان شاءوا، وذلك بقدرة الله تعالى من الجن نعت نفر، ومن للتبعيض، أو متعلق بصرفنا، ومن للإبتداء.
{ يسْتَمعُون القرآن } حال مقدرة من نفرا على نعته بقوله: { من الجن }على جواز كون التقدير من غير صاحب الحال، فان النفر حين الصرف غير مقدرين الاستماع، وهو مشكل، أو حال من فاعل صرف، فان الله عز وجل هو الصارف مقدر استماعهم، وهو مشكل أيضا لأنه ليس فاعلا للاستماع، فلعل الجملة نعت لنفرا، أى نفرا يستمعون القرآن، عاب الله عز وجل قريشا بأنهم كفروا بمن هو آدمى مثلهم، ومن نسبهم، وشرفه شرف لهم، وآمن به الجن، وهم بخلاف ذلك، وأما اللغة، فالجن كغيرهم فى لغة العرب، ويوصفون بالقوة كعاد، وقصة عاد تضمنت ذكر الريح، وهذه القصة تضمنت ذكر الجن، فتناسبت القصتان، وذكرتا لغرابتهما، وهؤلاء النفر من جن نصيبين من ديار بكر قريبة من الشام، وقيل من نينوى، وهى من ديار بكر لكن قريبة من الموصل، ويقال: انهم من الشيطان، وهم أكثر الجن عددا، وعامة جنود ابليس منهم، والقرآن الذى يستمعون هو سورة:
" { اقرأ باسم ربك } " [العلق: 1] قرأها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن جابر بن عبد الله، وابن عمر أنها سورة الرحمن، كلما قرأ صلى الله عليه وسلم " { فبأي آلاء ربكما تكذبان } " [الرحمن: 16] قالوا لا بشىء من آيات ربنا نكذب، ربنا لك الحمد، وبعض القرآن يسمى قرآنا أى قراءة أو مقروء.
{ فلمَّا حَضَروه } أى حضروا القرآن لذكره فى قوله: { يستمعون القرآن } أى حضروا عند تلاوته، وهو الظاهر، ولا مجاز فيه تقول: حضرت القرآن عند فلان، كما تقول حضرت فلانا، وقيل الهاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لذكره بقوله: "إليك" الا أنه هنا بالخطاب بالغيبة على طريق الالتفات، ويدل له قراءة قضى بفتح القاف والضاد { قالُوا } قال بعض لبعض { أنصِتُوا } اسكتوا لتسمعوا، وفيه تأدب عام لحال الاستماع مطلقا لأنهم حال القول، لم يعلموا أنه علم حتى تأدب مع العلم والارشاد الى كيفية تعلمه { فَلما قُضِىَ } فرغ صلى الله عليه وسلم من قراءة ما أراد قراءته، كما قرىء قضى بفتح القاف والضاد { ولَّوْا إلى قومِهِم } وهم الجن، أو المراد الجنس أى أقوامهم كل ذهب الى قومه من الجن.
وكان الحضور بوادى نخلة على نحو ليلة من مكة المكرمة، انطلق النبى صلى الله عليه وسلم فى طائفة من أصحابه الى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وخبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين الى قومهم فقالوا: مالكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حيل بينكم وبين خبر السماء الا لشىء حدث، فاضربوا مشارق الأرض مغاربها، فانظروا، فتوجه نفر نحو تهامة، ووافوا النبى صلى الله عليه وسلم بنخلة يصلى بأصابه صلاة الفجر، فاستمعوا له فى صلاته، فلما سلم رجعوا الى قومم منذرين، وقد آمنوا وقالوا: هذا والله الذى حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا الى قومهم منذرين، رواه البخارى ومسلم والترمذى، عن ابن عباس ثم رأيته للنسائى ايضا.
وروى ابن المنذر: أنهم استمعوا حتى فرغ من الصلاة، فولوا مؤمنين منذرين، ولم يعلم صلى الله عليه وسلم بهم، حتى نزل
" { قل أوحي إليَّ أنه استمع } " [الجن: 1] الخ وهذا السورة نزلت بعدها، وفى البخارى ومسلم، عن ابن مسعود رضى الله عنه: أنه أعلمته بهم شجرة، وقيل علم حال الاستماع، كما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إني أمرت أنْ أقرأ على الجن الليلة فأيكم يتبعني كرر ذلك ثلاثا فلم يتبعه إلا ابن مسعود قال: لم يحضر أحد معى غيرك فانطلقنا حتى اذا كنا بأعلى مكة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعب الجون, قال: اجلس وخط على خطا، وقال لا تخرج حتى أعود اليك، فافتح القرآن، فجعلت أرى أمثال النسور تهوى وسمعت لغطا شديداً حتى خفت عليه صلى الله عليه وسلم، وغشيه أسودة كثيرة حتى لا أراه ولا أسمع صوته، ثم رأيتهم يذهبون كالسحاب قطعا بعد فراغه مع الفجر فقال لى: نمت؟ فقلت: لا والله يا رسول الله، وقد هممت أن أستغيث لك الناس، حتى سمعتك تقرعهم بالعصا، وتقول: اجلسوا، ثم قال: لو خرجت لم آمن أن يخطفك أحدهم، وهل رأيت شيئا؟ قلت: رأيت رجالا سودا بيض الثياب، قال: هم جن نصيبين سألونى الزاد فمتعتهم بالعظم والروث والبعر فقالوا: ينجسهما الناس عينا، فنهى صلى الله عليه وسلم عن تنجيسهما، فلا يجدون عظما الا كان لهم كيوم أكل ولا روثا أو بعرة الا كان لهم كما كان حبا.
فقلت: ما ذلك اللغط؟ قال: تخاصموا في قتيل فقضيت بينهم"
ورأى شيخا شمطا فى الكوفة، فقال: هم أشبه بالجن الذين رأيتهم عند قراءته صلى الله عليه وسلم على الجن، وقال ابن عباس: هم سبعة، وهم من جن نصيبين، قاصدون اليمن لأجل معرفة سبب منع استراق السمع، وجن نصيبين أشراف وسادتهم، وقيل: أول من بعث إبليس فى ذلك جن نصيبين، بعثهم الى تهامة، وذكر زربن حبيش: ان من السبعة زوبعة، وعن مجاهد: ثلاثة من حران، وأربعة من نصيبين: حسى ومسى، وشاسر وماضر، والارد وانيان وسرق والأحقم بالميم، وقيل بالباء وذكر السهيلى، منشىء وناشىء بدل حسى ومسى، وذكر الطبرى والطبرانى عن ابن عباس: أنهم تسعة عشر من نصيبين، وأنه صلى الله عليه وسلم علم بهم، وأرسلهم الى قومهم.
وعن ابن مسعود رضى الله عنه: ما صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم منا أحد ليلة الجن، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه فى الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا جاء من جهة حراء، فأخبرناه فقال:
"أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن" فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم رواه أحمد ومسلم والترمذى وأبو داود.
وروى أحمد، عن ابن مسعود:
"قمت مع النبى صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وأخذت اداوة حتى اذا كنا بأعلى مكة، رأيت أسودة مجتمعة فخط لى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقم هنا حتى آتيك ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهم، فرأيتهم يتثورون اليه، فسمر معهم ليلا طويلا، حتى جاءنى مع الفجر فقال لى: هل لك من وضوء؟ قلت: نعم، ففتحت الاداوة، فاذا هو نبيذ فقلت: ما كنت أحسبها إلا ماء، فقال صلى الله عليه وسلم: ثمرة طيبة وماء طهور فتوضأ منها ثم قام يصلى، فأدركه شخصان منهم بصفهما خلفه، ثم صلى بنا، فقلت: من هؤلاء يا رسول الله؟ فقال: جن نصيبين" ويجمع بين الأحاديث بعتدد واقعة الجن.
وذكر الطبرى، عن ابن عباس: أنه صرفت الجن الى النبى صلى الله عليه وسلم مرتين، وذكر أنه ست مرات، وعن كعب الأخبار: انصرف النفر التسعة من أهل نصيبين من بطن نخلة، وأنذروا قومهم، فجاء ثلاثمائة الى الحجون، فسلم الأحقب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ان قومنا حضروا الحجون، فوعده لساعة من الليل بالحجون، وعن عكرمة فى الآية أنهم اثنا عشر ألفا من الموصل، وذلك فى ابتداء الوحى، وفى مسلم اختيار أنهم من جن الجزيرة.